منذ التحاقي بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، حاملا مشروعا إعلاميا يتمثل في تحويل المغربية إلى قناة إخبارية دولية، وهو ما نص عليه دفتر تحملات الشركة، وأنا أتعرض لضربات وطعنات ومؤامرات دنيئة وساقطة، كشف ناسجو خيوطها ومهندسوها ومنفذوها عن درجة عالية من الحقد والخبث والانحطاط الفكري والمهني والأخلاقي. ولم أكن أتوقع مطلقا أن تصدر البيانات النقابية وتصاغ بلغة تقطر سما وحقدا وكراهية وتعبر عن ضيق النفس الأمارة بالسوء وانزعاج العقل الفاسد.

اعتقدت في بداية المشوار أن ميلشيات الفساد والهشاشة المهنية سقطت في هفوة عابرة أو أنها كانت ضحية خطإ لم يتم تقديره بشكل جيد. حافظت على برودة الأعصاب ورباطة الجأش والتزمت بقدر كبير من التسامح والحكمة والترفع عن الدنايا، من منطلق أن طبيعة البشر تتكون من الخير والشر، وأن المواقف الانفعالية وردود الأفعال السريعة هي سحابة صيف سرعان ما تتلاشى. غير أن فيلقا من المجندين الممنطقين بخناجر الحقد، تمادى في نسج المؤامرات والسعي بكل الوسائل إلى النيل من تجربتي المهنية ومصداقيتي وتاريخي وموقعي الرمزي في الحقل الإعلامي والثقافي والحقوقي والجمعوي. واستعمل هذا الفيلق كل الأسلحة لقطع الطريق على أي مشروع أو فكرة مجددة ومبدعة تستند إلى رؤية إصلاحية وتأهيلية وتطويرية.
بعض أفراد هذا الفيلق يمارس حقده في سرية مطلقة ويحرص على عدم إظهار نواياه المترعة بالجبن والشماتة والنذالة؛ والبعض الآخر يزيل الغطاء عن جوهره تماما فيعلن في سياقات معينة أنه من سابع المستحيلات القبول بتعيين شخص قدم من “دوزيم” على رأس قناة في الشركة الوطنية، علما بأن هذا الشخص ينتمي إلى القطب العمومي وإلى المغرب. ولا يخفي الذين ينطوون على جرعة مثيرة من الحقد والحسد، جشعَهم في الانقضاض على كل شيء والتصريح بأنهم هم من يجب أن تسند إليهم مناصب المسؤولية، واضعين نصب أعينهم ما يعتبرونه امتيازات ومصالح يسيل لها لعابهم وتسري نشوتها المخدرة في عروقهم.
المحزن في المسألة هو أن يخلط هؤلاء الأوراق كاملة ودفعة واحدة، ظنا منهم أن فضيلة الصمت وغض الطرف رديف للخوف والجبن واهتزاز القناعات، أو ربما اعتقدوا أن تنظيم حملات تشويهية عبر بلاغات وتسريبات تافهة إلى بعض المواقع، ستهتز لها الفرائص وترتعد لها الأبدان وتقشعر لها العقول.
كان بالإمكان تحمل مختلف الدسائس والحروب الفاشلة التي خيضت بأسلحة فاسدة في مواقع وساحات متعددة وشارك فيها جنود من مختلف الوحدات والدرجات “طبعا، لا بد للحرب من قياديين وعقول واستراتجيين”، لكن سلوكا ساقطا من هذا القبيل لا يمكن السكوت عليه، لأن الأمر يتعلق، أولا وقبل كل شيء، بصون الكرامة الشخصية والدفاع عن المصداقية والمهنية وترسيخ الأخلاقيات داخل المؤسسات كآلية لتدبير الخلافات والتشجنات.
والمثير للشفقة هو أن بعض مشعلي الفتنة المؤسساتية ومحركي ملفات وهمية لتوجيه رسائل معينة إلى بعض المسؤولين قصد زعزعتهم، هم أشد الناس كفرا بالمهنية والاستقامة والحكامة والجودة والشفافية، ويشكلون كوكبة متطورة ومتدربة على انتهاز الفرص والامتيازات والتورط في ممارسات يندى لها الجبين.
إن الضعفاء والذين يعانون من مجاعة أخلاقية ومن خصاص فكري وضحالة مهنية، يصعب عليهم التقدم خطوة إلى الأمام من أجل تخليص أنفسهم من الجرائم التي يقترفونها ليلا ونهارا، ويخافون القيام بهذا التمرين السليم والأساسي لأي تطور أو بناء متين، كما أن الحسابات والحروب الصغيرة هي جزء من سلوك وتفكير خفافيش الليل التي لا تستطيع رؤية الشمس لأنها تعميها.
ومن اللائق أن يعرف مهندسو الدسائس الماكرة كيف يصمتون في خشوع في حضرة الماسكين بجمرة المصداقية والمهنية.
وإذا كان من الضروري أن يتحول البعض إلى قناصة، فليحاولوا قنص حقدهم وكنس كراهيتهم حتى لا يصيبوا قوما بأذى، فنحن نولد تماما أو نموت تماما. ولسنا من محترفي تغيير القناعات كما تغير الثياب الداخلية، ونحن إيجابيون إلى أبعد مدى ووطنيون منذ الأزل، وعندما تـُشن علينا الحروب ويـُعتدى علينا ويـُمس أمننا، يفرض علينا الرد، فنرد بقوة ونجهل فوق جهل الجاهلين، لأننا لا نساوم بل نقاوم.
وهؤلاء الذين يحرصون على تزييف التاريخ وقلب الحقائق والمبادئ والمعايير المعمول بها في تدبير أي مؤسسة، اختلقوا بدعا ما عهدناها، فهم يتبجحون بالمهنية والجودة وإتقان العمل من بدايته إلى نهايته؛ وفي المقابل يجهزون، بوعي أو بدون وعي ودون سابق تفكير أو تقدير، على العلاقات المهنية السليمة والقيم الإنسانية والثقافة الإيجابية التي ينبغي أن تسود المؤسسات.

عبد الصمد بنشريف، مدير قناة “المغربية”

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version