قليلا ما تتاح لي فرصة الاستمتاع بالطرب، وهذه المرة كانت فرصة استثنائية حينما جمعتني الظروف بصوتين من ذهب وماس.. صوتان لامرأتين، واحدة إسبانية، والأخرى جزائرية عربية أمازيغية.

المكان مسرح محمد الخامس بالرباط.. والذاكرة أندلسية تعود للقرن العاشر وتمتد للقرن العشرين.

المرأة الأولى اسمها لوث كاسال، فنانة جيل الثمانينات، قدمت ملء عطائها ومشاعرها الحقيقية في الغناء. كانت منسجمة مع  الموسيقى والحركات والسكنات، وأشعرتنا بعالمها السحري وبتواطئها الأبدي مع الحب.. بإخلاصها للتعبير الجسدي دونما ابتذال أو ابتزاز للأنوثة.

ما أروع إبداع امرأة تترك نفسها لحسها الإنساني الخالص دون أن تشعرك بالغواية أو الإغراء. لوث كانت لوحة فنية متحركة يأخذها الإحساس الكلي بعالمها وكينونتها وتمنح المتفرج الاقتناع التام بموهبة المرأة وانسجامها مع نفسها بعيدا عن أي تقييم  محدد. مع لوث، أو نور.. إن ترجمنا اسمها إلى العربية، شعرنا أن الغناء لغة الوجود، وأنه ضروري لحياتها.. بل ولحياتنا أيضا.. إنه كالهواء تماما. الحالة التي تدخلنا فيها هذه الموسيقية الاسبانية الملتزمة هي حالة سلام وتصالح تام مع الفن الرفيع الذي توقعه نساء حقيقيات لا يتشدقن بالمغنى ولا يحتجن مساحيق التجميل والترتيب.

على نفس المسرح كان الموعد الاستثنائي مع الجزائرية العذبة، سعاد ماسي، وهي ماسة حقيقية في دنيا الطرب الراقي.

اختارت سعاد أغاني وموسيقى بتوقيع من شخصيتها المتواضعة والعميقة. تحمل قيثارتها وحنجرتها الدافئة الرقيقة ووجدان غني بالحب والتسامح. تنسج كلمات من وحي اللحظات الإنسانية الشجية.

سعاد كانت ملكة الإحساس والنغمة على مسرح محمد الخامس.. بلا ابتذال ولا مبالغة. في الفن طرق عديدة وملتوية أحيانا، وقليلون، خاصة النساء، من يبرع في اختيار الطريق الصعب الذي يبتعد عن التشيؤ وتحويل المغنية لجسد يشتهى ويغوى أكثر من روح تفيض بالإحساس والخصال الإنسانية.

سعاد كما لوث، أو نور، أشعرتانا، رغم عتمة الأشعار والكلمات والأشجان التي تطويها أغنياتهما، أن ثمة نور حقيقي يضيء العتمة بالصدق في التعبير وبالقوة والقدرة على التسامح والتعاطي مع الأخر مهما اختلف معك، لأن المهم والأهم هو الشحنة الوجدانية المتوهجة داخل الفنان التي تجعل الأخر شريكا حقيقيا في معنى الإنسان الذي هو نحن  جميعا في أي مكان في العالم.

لوث حالة متفردة تشكل لوحدها عالما فريدا من الأحاسيس الصادقة التي تمس كل إنسان. وسعاد أعطتنا درسا بالغا في تسامح الثقافات وفي المعنى الأمثل للتعاون والتلاقح الثقافي بروح الجماعة. لم تجعل من نفسها النجمة.. بل جعلت الفرقة كلها نجمة ساطعة في تلك الليلة الحالكة بالشجن الشجي الذي يوقظ أوتار القلب فيغني دون أن يشعر. أذهلتنا بجرأة اختراق شعر لسان الدين بن الخطيب والمتنبي ومحمود درويش لتحولهم إلى إيقاع حياة موسيقية رفيعة بأوتار القيثارة وفن الفلامنكو. وشكرنا لسعاد على الموعظة التي تلقيناها منها دون أن تدري. وصلتنا منها قيمة أساسية في أدائها وفنها وهي الحب. شكرا لوث التي شكلت حالة متفردة لكل معاني الحب الأبدي… وشكرا لكل فنانة استطاعت أن تهدي فنا رفيعا دون أن تأكلها ماكينة السوق الاستهلاكية المرعبة لتحول الفنان لمجرد قطع للإثارة المجانية لا غير.

 سعاد ولوث أشعرتاني أن ثمة حالة إنسانية راقية تنمو بيننا رغم ما قد يتبدى لنا من مظاهر الخزي والعار والاستهتار الذي يُفرض علينا باسم الغناء والفن.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version