طنجة مذ كانت ظلت معقلا لقلاع المحافظة والتدين. وخلال القرون الماضية، ظلت طنجة مأوى لكل أصناف وأشكال الزوايا الصوفية، وفي العقود الماضية اشتهرت طنجة بأنها المدينة الأولى في المغرب التي تعرف ظهور تيارات دينية مختلفة، وهي تيارات تكون، أحيانا، متناقضة وعلى طرفي نقيض.
هذا النزوع الديني لطنجة له أسباب كثيرة، لكن هناك سبب قد يبدو غريبا وهي أنها مدينة على مرمى حجر من أوربا، ومثل هذه المدن القريبة من “بلاد النصارى” عادة ما تشعر بالخوف على نفسها من تأثير الآخرين، لذلك لا غرو أن تكون طنجة واحدة من أشهر وأكثر المدن المغربية محافظة. إنها مدينة تحصن نفسها بالأسوار والأفكار.
في طنجة نبغ علماء دين كثيرون، وظهرت عائلات كاملة من العلماء الذين بصموا تاريخ وحاضر هذه المدينة إلى الأبد، وندرج فقط مثالا واحدا كنموذج وهو عائلة بن الصديق، وهناك أمثلة ونماذج أخرى كثيرة، ويندر أن نعثر على مدينة مغربية أخرى تتوارث فيها عائلات بكاملها مسار العلوم الشرعية والدينية مثلما هو حال عائلات طنجة.
هناك خاصية أخرى لطنجة، وهي أنها مدينة محاطة بعدد كبير من القرى الجبلية التي كانت بمثابة الخزان الاستراتيجي لطنجة بعلمها وعلمائها، ويكفي أن نأخذ اعتباطا أسماء عدد من علماء الدين في طنجة لكي نكتشف أن أصولهم تتحدر من قرى جبلية قريبة من المدينة، مثلما هو حال منطقة أنجرة أو غمارة أو بني عروس أو بني كرفط أو الفحص أو غيرها من المناطق المحيطة بالمدينة.
طنجة كانت أيضا مدينة دولية، وهدا يعني أنها لم تكن مدينة وحيدة الديانة، ففيها تعايش المسلمون والمسيحيون واليهود والهندوس، وهذا شيء نادر، إن لم نقل إنه منعدم في المدن المغربية الأخرى.
في طنجة الدولية لم يكن الدين عائقا أمام تحقيق أية طائفة طنجاوية لطموحاتها وأحلامها، وفي كثير من الأحيان كان المسلم والمسيحي واليهودي والهندوسي يجتمعون على مائدة طعام واحدة، ثم يفترقون في العبادات.
اليوم لا تزال طنجة هي طنجة، لكن واقعها مختلف عما كانه من قبل. الإسلام هو اليوم دين الأغلبية الساحقة من سكان المدينة، وهناك أقلية قليلة من المسيحيين المقيمين بصفة دائمة، أما اليهود فصاروا يعدون على رؤوس الأصابع، بينما الهندوس لم يبق منهم إلا نفر قليل جدا.
لكن مستقبل طنجة قد يكون مغايرا تماما، وربما شبيها بزمن طنجة الدولية. فهناك اليوم إقبال مثير على استيطان طنجة من طرف أفراد ومجموعات جنسيات أخرى، وهؤلاء يحملون معهم دياناتهم وثقافاتهم إلى المدينة التي فضلوا أن يستقروا بها إلى الأبد، وفي هذه الحالة يجب على طنجة أن تستعيد روحها القديمة، روح طنجة الدولية وزمن تعايش الأديان والثقافات والأمزجة.
مستقبل طنجة، في العشر أو العشرين سنة المقبلة، قد يكون شبيها، في روحه ومضمونه، بزمن طنجة الدولية، رغم أنه سيكون مختلفا في أشياء كثيرة أخرى.
طنجة، إذن، تتغير باستمرار، لكن تبقى روحها العالمية والمتسامحة هي السائدة أبدا.
تعليق واحد
مدينة طنجة كانت و لا تزال من المدن الساحرة الخلابة التي تجلب كل من زارها