في أولى أيام رمضان فعلت كما يفعل كل المغاربة واشتقت للسمك. سألت عن سعر سمك أحبه فوجدته بتسعين درهما.
زمن المفاصلة في الأسعار انتهى، وخصوصا أسعار السمك، لذلك بلعت ريقي خفية وتظاهرت بأني لم أسمع شيئا وبدأت تطبيق الخطة السرية الثانية، وهي اختيار نوع آخر من السمك أقل غلاء، فاخترت سمك “الشّطون”، وسعر الكيلوغرام الواحد 40 درهما.
بينما كان البائع ينقي السمك ويلفه، شرد ذهني وصعد عاليا في السماء كما لو أنه طائرة، وصار يحوم حول المغرب من أقصاه إلى أقصاه. تذكرت عبارة “من طنجة إلى الكويرة” التي نسمعها فقط حين يريد المسؤولون أن يؤكدوا لنا مغربية الصحراء، لكني، وبسبب الغبن الذي أصبت به ذلك اليوم، اخترعت عبارة ثانية تؤكد فعلا على مغربية الصحراء، وأيضا على شيء آخر.. مغربية السمك، وهي عبارة “من السعيدية إلى الكويرة”، لأنها تلخص فعلا واقع الحال ومرارة الواقع والمآل.
رسمت في ذهني خريطة المغرب من السعيدية إلى الكويرة، وعبرت مثل طائر خرافي كل الشواطئ المغربية ذات الثلاثة آلاف كيلومتر، ومررت من الحسيمة وسردينها الذي الذي يُضرب به المثل. عبرت منطقة الجبهة وأسماكها الغنية، وبحر “البوران” الذي نشترك فيه مع إسبانيا لكننا لا نعرف ولا نذوق أسماكه. حلق ذهني فوق مضيق جبل طارق، حيث تعبر أعداد كبير من سمك “التّن” كل عام قادمة من المحيطات الباردة لكي تتوالد في مياه المتوسط الدافئة.
عرّجت محلقا فوق مياه أصيلة حيث المراكب لا تفتر عن الحركة، ثم ميناء العرائش حيث الأسماك بالأطنان. حلقت بذهني سريعا فوق كل تلك البحار والموانئ والأنهار الممتدة على مدى “محيطنا” الشاسع من القنيطرة إلى الدار البيضاء والجديدة وآسفي والصويرة. تذكرت آلاف الأنواع من الأسماك الرابضة في كل مكان من “شواطئنا العتيدة. أكمل ذهني شروده الحالم ما بين ميناء أكادير وطرفاية والعيون والداخلة.
تاه الخيال بعيدا وسط كل تلك الزرقة المذهلة لبحار يقال إنها بحارنا، قبل أن أنتبه فجأة للبائع يكاد يفقد صبره الرمضاني الضئيل وهو يمد نحوي قطعة البلاستيك بما فيها من “حبات” السمك الصغير. أديت الأربعين درهما، ولعنت الخيال الجامح الذي شرد بي بعيدا، بعيدا جدا حتى خرج عن الواقع.. فالواقع الحقيقي هو أننا أمة بلا بحر.. الواقع هو أننا نشبه بلدا يستورد أسماكه من البرازيل أو الأرجنتين، فلا أحد يمكنه أن يفهم أن بلدا بثلاثة آلاف كيلومتر يعاني شعبه كل هذه الويلات من أجل الحصول على سمك جيد بسعر مناسب.
غادرت محل السمك نحو متجر فواكه يبدو أنه يعرض بضاعة جيدة ونقية. سألته عن كيلوغرام من فاكهة المزاح فقال إنها بأربعين درهما للكيلو. اعتقدت أني سمعت خطأ فوخزت أذني قليلا وأعدت السؤال للبائع الذي بدا منزعجا وكرر نفس الرقم بنبرة تشبه نبرة “واسير بْحالْك”. قرب “صندوق المزاح” يوجد صندوق للكرز. سألت عن سعر الكيلوغرام فوجدته بثلاثين درهما. تذكرت ساعتها كل الأكاذيب عن المغرب الفلاحي وملايين الهكتارات من الأراضي المزروعة والسدود التي كنا نقرأ عنها وكأننا نقرأ عن معجزات لم يسبقنا إليها إنس ولا جان.
تذكرت أيام الحسن الثاني المجيدة، حين بدأت الملحمة الكبرى، ملحمة الفساد في البر والبحر، فأعطى الملك البحار والمحيطات للعسكر، وأعطى للسياسيين البر وما فيه من أراضي وضيعات وعقارات، ثم أخذ الشعب حقه من “الضّبابة”، ولا يزال الوضع على ما هو عليه، ولا زلنا نتحدث عن سبتة ومليلية المحتلتين، بينما لا ننبس بنت شقة حول بحارنا المحتلة، وأراضينا المحتلة، وثرواتنا المحتلة، وحقوقنا المحتلة، وأرزاقنا المحتلة، وأشياء كثيرة أخرى لا تزال محتلة ولا نأبه لها.