طنجة أنتر: محمد الأندلسي
حادث وقع قبل بضعة أسابيع، وخلال شهر رمضان، قرب طنجة وأدى إلى اختفاء 4 بحارة من طاقم مركب للصيد في مضيق جبل طارق وعجز المسؤولين عن إنقاذهم وإغاثة مرافقيهم بعد 10 ساعات من طلب للنجدة بواسطة الراديو و المصحوب بتحديد دقيق للإحداثيات بواسطة جهاز ( جي بي إس)، هذا الحادث لا يمكن إدراجه إلا في خانة الفضائح الكبرى التي لا يمكن السكوت عنها.
إنها فضيحة بكل المقاييس ان يختفي هؤلاء ا البحارة في واضحة النهار في ظروف مناخية ملائمة ووسط منطقة تكاد تكون فيها الموانئ أكثر من البحارة (موانئ طنجة المتوسط ، الميناء العسكري، ميناء طنجة المدينة ، بالإضافة إلى ميناء أصيلة).
معركة الإنقاذ معركة أزلية تدور رحاها بين الإنسان (ضحية ومنقذ)، وبين قوى الطبيعة، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: بينما كان الضحايا يعانون الجوع والبرد وينتظرون الموت، أين كان المنقذ خلال هذه المدة ؟ وماذا كان يفعل خلا ل العشر ساعات بدقائقها الستمائة، والتي تمثل كل واحدة فيها فارق بين الحياة والموت؟.
معاناة هؤلاء البحارة خلال هذه الدقائق الستمائة وهم صائمين وموت أصدقائهم أمام أعينهم وهم على مرمى حجر من المدينة وأمام باب مينائها، أي في منطقة مالاباطا، جديرة بفيلم درامي يضاهي جميع الأفلام الدرامية الرمضانية.
في السنوات القليلة الماضية حدثت نفس المشكلة تقريبا حيث اصطدمت سفينة لنقل البضائع بمركب صيد، مما أدى إلى غرق هذا الأخير في الحال وموت البحارة الذين كانوا نائمين في الأسفل، ومن بقي على قيد الحياة اتصل بالإنقاذ البحري لطنجة ليتم الرد عليهم من الدار البيضاء ؟؟؟؟؟؟؟ ولولا الألطاف الإلهية وتدخل فرق الإنقاذ الخاصة بطريفة الاسبانية رغم وجودهم في المياه المغربية لكانوا اليوم في عداد الأموات.
وعلى ذكر “طريفة”، هذه المدينة الصغيرة التي لصغرها تكاد توازي أحد أصغر أحياء طنجة، ومع ذالك ما على المسؤولين عن الإنقاذ إلا أن يتوجهوا إليها ليتعلموا معنى الإنسانية، ليروا بأم أعينهم كيف أن هناك طاقم انقاد همه الوحيد هو إنقاذ الأرواح بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس أو الجنسية، بحكم أن 99 في المائة من تدخلاتهم هي عبارة عن إنقاد الغرقى من خارج الاتحاد الأوربي من المهاجرين السريين، وجلهم من المغرب وجنوب الصحراء، وفي أحيان كثيرة غرقى من تجار المخدرات، وكثير من عمليات الإنقاذ تجري وسط عواصف المضيق الهوجاء وليله الحالك الظلمة ومياهه الباردة وفي أي ساعة من ساعات اليوم الأربع والعشرين.
بالنسبة لهم لا يهم من أنت ولا ماذا كنت تفعل تلك الأثناء في عرض البحر، كونك إنسان وفي حالة خطر يغطي على كل الأسئلة، وهم يؤدون مهمتهم الإنسانية النبيلة على أكمل وجه ولا يريدون جزاءا ولا شكورا.
أما عندنا فالمنقذون يعجزون بعد يوم كامل تقريبا، وفي واضحة النهار، من إنقاذ مواطنيهم الذين يحملون، بالإضافة لنفس البطاقة الوطنية، نفس اللون ونفس اللغة والدين، دين الإسلام، الذي ينص على أن من أحيى نفسا واحدة فكأنما أحيى الناس جميعا.
عندنا، وبعد وقوع الكارثة وفوات الأوان، يبدؤون في تقاذف كرة المسؤولية، فمن تنازع الاختصاصات إلى منطقة التدخل التي لا تعود إليهم، إلى ما لا نهاية له من الأعذار، وغالبا ما تسقط تلك الكرة في أعذار قلة التجهيزات وضعف الإمكانيات.
في العالم كله تكون فرق الإنقاذ عل أهبة الاستعداد، وذالك يعني حرفيا التوفر على مراكب مجهزة بمحركات قوية ووسائل اتصال وتتبع، وطاقم منسجم ومدرب أحسن تدريب، لا هم له إلا تلقي نداءات الاستغاثة والاستجابة إليها في الحين، أما في وقت الفراغ فيقوم الطاقم بالاعتناء بالمركب وصيانته ليكون جاهزا في أي وقت المرة القادمة، مع وضع قارب احتياطي جاهز أيضا، فحالات الطوارئ تحدث في أي وقت، و يمكن أن تأتي عدة نداءات في نفس الوقت، كما تتوفر فرق الإنقاذ على مروحيات مجهزة طبيا، وفي حالة تعذرها تستعين بمروحيات تابعة لأجهزة أخرى.
في هذا البلد السعيد الذي اسمه المغرب، يمكنكم أن تروا عكس ذلك تماما، ولمن أراد أن يتأكد بنفسه ما عليه إلا التوجه إلى مدينة أصيلة، التي يقارب ميناؤها ميناء طريفة من حيث المساحة وليس في التجهيزات طبعا، فهناك يرسو مركب إنقاذ يحمل اسم واحدة من أكبر معارك المغرب، معركة وادي المخازن، لكن من الوهلة الأولى يظهر أن هذا المركب هو نفسه يحتاج إلى من ينقذه من معركة النسيان والإهمال التي فرضت عليه.
فصباغته الحمراء بدأت تتحول شيئا فشيئا إلى البرتقالي بفعل قدمها وتعرضها المتواصل لأشعة الشمس، والطحالب نبتت في كل مكان في أسفله، أما الغبار والأوساخ فحدث ولا حرج، وعلا الصدأ أماكن كثيرة منه، ومن خلال منظره يظهر أنه لم يقم أحد بصيانته منذ اليوم الأول لاستخدامه، وحالته لا تختلف كثيرا عن الزوارق المطاطية المربوطة فيه، والتي تمت مصادرتها من المهربين. ونظرا للإهمال التي تعرضت له هاته الأخيرة يبدو أنها عبارة عن خردة أو متلاشيات غير صالحة للإبحار، فالمحركات بدون أغطية، وجنباتها خالية من الهواء وممزقة. هذه الزوارق، مثل وادي المخازن، بدورها كان يمكن استغلالها في الإنقاذ لو توفرت الصيانة، وكان بالإمكان، على أقل تقدير، حفظها بطريقة صحيحة كقطع غيار.
الطامة الكبرى هي أنه حتى الزورق المطاطي الذي يحمل اسم الدرك الملكي هو بدوره في حالة يرثى لها بجوانب فارغة من الهواء وفوق مقطورته الموضوعة على الرصيف بجانب إدارة الدرك الخاص بالميناء.
من كل ما سبق، وسواء اعتبرنا هذه حالة معزولة أم حالة تنطبق على كل موانئ الشمال أم في المغرب كله، ففي كل الحالات يظهر أن الإنقاد البحري، إن كنا نتوفر عليه فعلا، فإنه يحتاج إلى إنقاذ. كما يبدو أيضا أن المشكلة الحقيقية ليست هي غياب الإمكانيات والآليات، وإنما غياب الإحساس الإنساني لدى المسؤولين وانعدام روح الوطنية.
غياب تلك الروح هو الذي يؤدي إلى إهمال الآليات واعتبار أرواح بسطاء الشعب من البحارة مجرد رقم ناقص من الحساب. كما تعطي الإحساس بأن مهمة الإنقاذ مجرد مشقة مجانية ومزعجة يمكن الاستغناء عنها.
نرجو أن تكون هذه آخر مرة نسمع فيها مثل هذه الفضائح التي تأتي نتيجة طبيعية لغياب اقتران المسؤولية بالمحاسبة، لأن مهمة إنقاذ الأرواح ليست مهمة بسيطة يمكن إعطاؤها لكل من هب ودب، بل هي مهنة من أنبل المهن على وجه الأرض، والإنقاذ البحري واحد ة منها، ونحن نتواجد بجوار واحد من أهم الممرات المائية في العالم ولا نتحمل مسؤولية إنقاذ أرواح مواطنينا فقط، بل صورة البلد بأكمله ملتصقة بهذا الجهاز.. جهاز الإنقاذ.