بعد أن خرجت من السجن في السابع عشر من يونيو الماضي، وبدأت بتصفح ما كتب عن تجربة الإضراب التي خضتها في الفترة بين الواحد والعشرين من يناير وحتى خروجي، وجدت ردود الفعل بين اللا تصديق الكامل، والتعاطف الضمني في بعض الحالات، والدعم الكامل. لكن الكثيرين لم يكونوا مقتنعين بإمكانية أن يخوض الإنسان تجربة يمنع نفسه فيها بإرادته الكاملة عن أكثر لذة يشتاقها: الطعام.

كنت وأنا الممتلئ ثقيل الوزن أقرأ عن تجارب من سبقوني على هذا الطريق مندهشًا ومعتزًا بهم، وأذكر حين كان والدي يعلمنا ونحن صغار مقولة للإمام البوصيري صاحب “البردة”: والنفس كالطفل، إن تهمله شب على حب الرضاع، وإن تفطمه ينفطم. تعلمت حينها أن نفس الإنسان ليست أقوى منه، وأنه كما خلقنا الله بالفجور والتقوى معًا داخلنا فإننا لا شك نستطيع أن نسيطر عليها ونوجهها ناحية ما نريد.

كلام نظري قد يبدو في ظاهره، فليس كل ما يريده الإنسان سهل المنال ويتحقق بالأماني، لكنني وأنا المحروم من حريتي والمنتزع من بين أهلي والمتحرق لنعمة الحياة كنت قد أشربت نفسي هذه القناعة بأنه لا طريق لنيل ذلك إلا بوضع قدمي على طريق لا خيار ثالث فيه: إما الانتصار وإما الموت، وقد كنت دائمًا أذكر في رسائلي أن الموت حرية، فحينها لا سلطة لإنسان عليك.

خلال أيام الإضراب التي وصلت إلى خمسة أشهر كاملة، كانت نفسي تتشوق رائحة الطعام، وكلما لمحت عيناي شكل الطعام اشتعل بداخلي صراع بين الرغبة والإرادة. نعم تتوق نفسنا إلى الطعام كبشر، هذه غريزة خلقها الله فينا.

أغبط نفسي حين أتذكر دائمًا أني كنت أول من أضرب عن الطعام في سجون مصر المعروفة بجبروتها وبطشها منذ خلق الله البسيطة ونال حريته بهذا السلاح بعد إرادة الله. أشعر بالفخر أن بدأ هذا الطريق بعدي محمد سلطان ذلك الفارس النبيل “صاحب أطول إضراب في تاريخ البشرية”، وأذكر كيف كنا نشجع بعضنا على الاستمرار رغم كل شيء.

يحيرني دائمًا التفكير في أسباب ما وصلنا إليه في بلادي، في مصر، وأسأل نفسي: ما الذي استفاده السجان واستفاده كل رأس في هذه الدولة بحبسي وراء القبضان كل هذه الشهور؟ أي مغنم ومنفعة عادت على الشاويش والمخبر والمأمور والضابط ووكيل النيابة والقاضي وكل فرد ساهم في هذا الحبس؟ هل حقًّا أنقذ البلاد والعباد من شر كبير ونام مرتاح البال؟

هل سأسامحهم؟ هل أريد أن أقتص منهم يومًا ما؟ الأسماء والوجوه وكل الملامح محفورة بذاكرتي، أحفظها لحين. وأذكر نفسي دائمًا بها. وحتى حين تلاحقني الكوابيس بذكريات مريرة وبأحاسيس أردت ألا أتعود عليها لا أجعل ذلك يعيق طريقي الذي ارتضيت أن أمشي فيه. وتنبؤني نفسي كل وقت بأن تجربة السجن هذه قد لا تكون الوحيدة في حياتي.

بالطبع أريد أن أقتص، لست أول ولا آخر من دخل تلك السجون، ولا أملك حتى قصة تقارن بمئات القصص كتلك التي عايشت ورأيت في أربعة سجون مررت بها. سجن العقرب وحده يريد مجلدات من الكلام عما يلاقيه البشر بداخله، لكني أزعم أني محظوظ حيث خرجت من ذلك الجحيم، لكنني أحس دائمًا بواجب وثقل ملقى على عاتقي: أن أروي وأحكي وأجعل القصة حية بتذكير الناس بها كل وقت وحين.

ســاســة بــوســت

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version