تطرح قضية السلفية، اليوم، العديد من التساؤلات التي تنصب على النماذج الفكرية والعملية معا، ذلك أن عبارة مثل «المنهج السلفي»، التي كانت شائعة إلى وقت قريب في الأوساط الإسلامية، تكاد تفقد مدلولاتها الحقيقية في زحمة التطورات الكبرى التي يجتازها هذا التيار. ولا يذهبن الظن في فهم كلمة «التطورات» إلى ما هو سياسي بالضرورة، بل ينبغي أيضا إدراج التطورات العامة التي مست الحياة أو المعيش في العالم العربي، ومن ضمن ذلك المظهر الاجتماعي وأشكال التعبير الإعلامي وطبيعة الخطاب الديني، وسواها.

خضع المنهج السلفي لكثير من التطوير خلال السنوات القليلة الماضية، بل إن العبارة المناسبة هي «التثوير» لا التطوير؛ فقد لبس هذا التيار جلابيب جديدة، بسبب احتياجاته اليومية إلى تحقيق القرب من المخاطـَبين من أجل نقل رسالته. وكلما اقترب هذا التيار من السياسة اقتلع بعض المسلمات التي كانت معروفة على أنها سلفية، واتخذ لنفسه مسافة منها، حتى دون أن يستدرك على نفسه أو يمارس «اجتهادا» علنيا يطوي صفحة المسلمات السابقة. يحافظ التيار السلفي على مسلماته النظرية، لكنه في الواقع العلمي يسعى إلى تبرير خرقها، ومعنى ذلك أنه يمارس نوعا من الميكيافيلية على صعيد الواقع، بينما يواصل ممارسة الطهرانية على صعيد الفكر النظري.

منذ ظهر تيار الإخوان المسلمين في الساحة السياسية والدينية العربية، قبل عشرات السنين، أصبح للتيار السلفي خصم جديد أضيف إلى التيار الصوفي. وقد ساجل السلفيون التيار الإخواني طويلا على صفحات الصحف والمجلات وبين دفات الكتب، قبل أن تظهر الشبكة والفضائيات؛ لكن صُلب هذه المواجهة كان يتركز في أمر واحد، هو التساهل الذي كان يتسم به التيار الإخواني في ما يتعلق بالعديد من القضايا في مجالي التعبد والعادة؛ فالملاحظ أنه بينما ارتبط التيار الإخواني بالرخص، ارتبط التيار السلفي بالمحرمات، الأول كان يركز على جوانب الإباحة، بينما كان الثاني يركز على جوانب التحريم.

وقد ارتبطت منطقة التحريم لدى التيار السلفي على الخصوص بمسألتين كثيرا ما سود فيهما السلفيون مساحات واسعة من البياض، هما النغم والصورة.. فالتشدد في منع التصوير لدى التيار السلفي يبلغ مداه، أما النغم والموسيقى فهما رجس من عمل الشيطان يتعين الإبراء منه؛ ولايزال التيار السلفي التقليدي متشبثا بهذا التحريم، بناء على فتاوى المشايخ التقليديين التي تستند إلى أحاديث نبوية، يستنتجون منها تحريم تصوير «كل ذي روح»، وهو استنتاج قد يكون مبالغا فيه، لأن الحيوان وغيره من جنس المخلوقات ذات الأرواح، لكن التحريم لا يشملها عند هؤلاء المشايخ، وإن كان هناك من يحرم حتى تصوير الحيوان أيضا، كما عند بعض الشيعة.

لكن قاعدة التحريم تظل مجرد قاعدة نظرية فحسب، لأن التيار السلفي اليوم أصبح أكثر التيارات الدينية إقبالا على التصوير، بل تجاوز الصورة الجامدة إلى الأشرطة المصورة التي تتكون من ثلاثة أضلاع: الصورة والصوت والحركة؛ ولم يعد مندرجا في خانة التحريم سوى صورة المرأة، أو أطرافها بالتحديد، طالما أن المرأة المنقبة يجري «تصويرها». ويمكن لأي مشاهد للقنوات السلفية أن يلاحظ كيف أن التيار السلفي أصبح يتوسل بأحدث التقنيات في التصوير والتركيز على الوجوه، كما يمكنه أن يلاحظ كيف أن المشايخ السلفيين يتزاحمون على التقاط الصور في أوضاع وهيئات أقرب إلى الاستعراض.

يتعلق الأمر بانقلاب كامل حصل في الفكر السلفي، الذي ارتبط طويلا بتحريم التصوير في العصر الحديث، فقد فهم التيار السلفي أهمية الصورة في التواصل بشكل متأخر، بعد عقود من المواجهة مع التيارات الأخرى حول هذه القضية، وخاصة منها التيار الإخواني؛ واليوم، يشكل التيار السلفي أكثر التيارات الدينية حرصا على نقل الصورة وترويجها، بشكل يتجاوز التيار الإخواني، بسبب التحولات الإقليمية والدولية التي دفعت السلفيين إلى الواجهة، وجعلت منهم أكثر التيارات الدينية تحركا على هذين المستويين، الإقليمي والدولي، بالنظر إلى الأجندة الجديدة التي أصبح التيار السلفي يسعى إلى تنفيذها.
لكن ما بين التطوير والانحراف حاجز قصير فقط، يكاد لا يظهر؛ ففي حالة حركة «داعش»، على سبيل المثال، وهي التي تمتد بجذورها إلى التيار السلفي الجهادي، يتحول التصوير إلى انحراف عن الخط الإسلامي جملة، وليس فقط عن الخط السلفي، حيث تتحول الصورة هنا من صورة ناقلة إلى صورة قاتلة؛ فهذا التيار السلفي لا يكتفي فقط بخرق قاعدة التحريم، بل هو يخرقها لكي يقيم عليها عملا تنطبق عليه قاعدة التحريم نفسها، باعتبار ما يقوم به من جرائم يتم تصويرها عملا وحشيا؛ فهو يسوغ عملا كان يحرمه باسم الإسلام، لكي ينفذ به عملا يحرمه الإسلام.. إنها واحدة من مفارقات التيار السلفي في هذا العصر.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version