حروب باردة مثلجة تارة، دافئة ساخنة تارة أخرى. حروب من نوع آخر ليس لها لون أو معنى، تفوح منها رائحة موت ودمار من أشكال أخرى، ينفخ كثير منهم في نارها، من قريب ومن بعيد، عن جهل وتجاهل، بمكر وكيد واحتيال، بحسابات وصفقات مربحة وأحيانا بغباء. حروب باطنية طاحنة من نوع آخر تستعمل فيها أسلحة افتراضية فتاكة لنهش أكباد، وتدمير أنفس، نخر مفاهيم،تفتيت أسر وتضبيب عقول. مؤامرات تحاك عبر الحدود بتعاون مع بعضهم يمارس فيها عنف لا أخلاقي شرس ممزوجا بقطرات قطران قذارة سوداء وسموم سخافة صفراء تتفاعل ببطئ أبدي مع فقاعات إقصاء وتفقير وتهميش سامة نجسة. تستعمل فيها أيادي موتى بلطجة مبلطجين محنطة في خلط وتهييء عقاقير احتقار الذات والاستهزاء بالأخلاق والقيم وهتك أعراض وتدجين لسلوكيات تفتى مقاديرها عبر اللاسلكي النحاسي مخترقة سرعة الفهم ومتجاوزة موضات العصر. سخرية معلبة مدسوسة في تقنين استهتار بالذكاء المفترض لذى طفولة بريئة وبالمفاهيم الإنسانية العميقة لذى ذوي السن المتقدمة. تبث بشراسة من طرف مهرجين من الشرق والغرب عبر موجات مغناطيسية تحشو صناديق تلفازنا، لتستفز مشاعر من يحلم ببقاء قيم ويتمسك بمعاني ودلالات قصص من سبقونا وتركوا لنا عبرا وحكم. صور بصرية افتراضية مصنعة من كل الأشكال والألوان نستوردها يوميا من دون رقابة، يستعملها جلنا مثل حبوب هلوسة، تصحر أدمغتنا وتميع سياساتنا وتزعزع مواقفنا وسلوكنا. نعم،بالتأكيد، ها نحن قد وصلنا إلى منتصف الطريق التي سلكها آخرون من قبلنا، وها نحن بدورنا قد حصل أن ابتلينا ببعضهم فأصبح من بيننا من لا يجمعه بنا إلا كتيب أخضر وبطاقة صغر حجمها تحمل صورة شمسية تسر الناظرين. فهذا بدل ثيابه وثياب أهاليه برمتهم ونفى وأنكر كل ما يربطه بوطنه وبنا عن سبق إصرار وترصد، وها من يمشي زهوا بدراهم بيع ضمير يضرب بنعليه أرضا خضراء روت عطش أجداده مثلما ارتوت بدمائهم، وسدت جوعهم مثل ما امتلأت بجثامينهم، وها هو مثل آخرين الآن ينكر فضلها وينسى قيمتها مكشرا عن ابتسامة تعلمها عبر قنوات استحمار قدرة قتلت ذاكرته وأفقدته إدراكه وبديهته واحترام ذاته وزفته بدون كتابة كتاب أو عقد مكتوب إلى عروس جنية أمسى يراها في السراب، أغواها بشبه لحية من ضباب، بضرب عشوائي على أسطال معدنية في الظلام وقبوع وانكماش في زوايا بنايات هاشة ونبش في قبور، عشق للعدم ونفي للحياة . وآخر أصبح مدخول بيع وشراء مهلوسات من شتى الأنواع مصدر رزقه ورزق أهله فعزف وفصيلته عن العلم والتعلم وتحدى القانون والقوانين كلها فأصبحت المبادئ في رأيه صداع في رؤوس المساكين تحتاج إلى مسكنات يبيعها بلمسة زر هاتف رخيص، ورمي ورقات مالية في الهواء ورقصة حركت أرداف أمة رقيق. وها من أعطى لنفسه سلطة مرجعيات يبرر بها حق قذف وتلفيق تهم تشق الأعراض شقا وتلصق أوساخا لصقا على وجوه صافية بريئة، قصد إذلال وإهانة عفيف شريف غيور على بلاده مصدرا أحكاما سابقة وآنية بسفك دماء لبشر في مستوى أسياده أصبح بحكم تربيته الساقطة يتصورهم في عداد عبيد له اشتراهم في سوق النخاسة الوهمي الذي نسجه داخل خياله… إنسان بسيط لا يساوره شك في أبسط معاني وجوده الفارغ عبر تحقيق أحلامه في إرواء غرائزه البدائية الشادة واستمراريته العمياء في الحياة. تحت إصرار مرضى بشدود وهيستيريا حقد حاد وجنون استبداد مزمن كان مصدرهما فقر وحرمان. أصبح تواجد بعضهم معنا من ضروريات الأمر الواقع، أصبح الجهل الصارح يعلو عبر قنوات الشحاذة والتسول الاحترافية ليقنن تدريجيا ويصبح أمرا مبتذلا طبيعيا بدون تحفظ. إصرار بتدنيس شرف شرفاء وشهامة شهام وكرامة مثقفين يحملون مشعلا يضيء وطننا بالتبصر والحكمة، بشكل همجي مستورد لا يخضع لميزان أخلاق ولا لرقابة عقول. جراثيم قوى الشر والحسد على هيئة أشباح تثقل كاهل بعضهم، تمتعهم إلى حين بعقد نقص وراثية وتحثهم على جر ضحايا سوء أعمالهم إلى الأسفل، إلى مستنقع جهل ورذالة بدون قعر، حيث يرون انعكاس وجوههم وذواتهم على أوساخ امتزجت بلعابهم وفضلاتهم عالقة بطين مذلة دفينة…ظلم جهلاء في ظلمات لا يثلوه تظلم، ولا يشكو منه شاكي لفقدان ضحايا عنف الاستلاب الثقافي كل آليات التذكر أو التمييز بين الحق والباطل، بين الأنا والهو، بين المثالية والوحشية…براكين البهتان تصدر دخان أوهام وضبابيات عبث ولذة خسران..تذيب ببطئ مرارة الوعي بالاشمئزاز،تجف دموع الألم وتحرق آليات الإحساس والفهم والشعور وتطمئن المرتجفين الخائفين من اللاشيء بتلقينهم إدمان هواية اليأس واللعب باللامبالاة وفنون العنف اللا إنساني والفحشاء تحت أسماء قديمة جديدة لمعايير أسئنا فهمها . في حين أمست عملية غسل الأدمغة وإصدار قرارات وأحكام الإعدام من اختصاص البادي والغادي فأصبحنا نتعود شيئا فشيئا على سماع التحريض على سفك الدماء وشربها وأكل كبد أصحابها رسميا من كل من هب ودب أمام كاميرات وميكروفونات تحمل أسماء مستعارة لمحطات تصدر الموت، تحت أسماء حرية وسلام، بتكشير عن ابتسامات سامة بلهاء…جنبا إلى جنب لمحطات أخرى تمزق برفق كل ما تحمله الحضارة الإنسانية من معنى بالغوص عميقا في سادية بعضهم وتسليط الأضواء على الأزبال وتصوير جوانب غريزية ترجع إلى ما قبل العصر الجليدي يفترض من القانون الدولي أن يصدها بقوة، نظرا للشكل الممنهج الذي يتم فيه تشويه كريزمات الغراِئز العميقة المعقدة لدى الإنسان والإسقاطات النفسية المرضية والصورة الإباحية التي تكرس في تسويق الأمراض والعقد بطريقة همجية نذلة ساقطة في سوق نحس تباع فيه الكرامة والأخلاق بسنتيمات معدودة وتمرغ صورة الكبار في الوحل في عيون الصغار البريئة..

انطفأت شموع الطهارة الإنسانية في نفوس بعضنا واتسخ النبل وسمو وعفة ونقاء كثير منا وعلا صوت الخبث والمكر والنفاق والكراهية..أصبحنا نغوص عن مضاضة، مختنقين أكثر فأكثر، في تلوث وجودي من صنف آخر، مضطرين أن نقتنع بمنطق لا يخضع لتفسير علم ولا يمكن تسطيره في حروف أبجدية تقرأ. تلوث سريالي يتخذ شكل أشباح أفاعي وزواحف من أغرب الأنواع تطاولت مع الزمن وشكلت لدينا فوبيا مزمنة من المجهول والمستعصي عن الفهم وغاصت داخل جماجم كائنات حية بيننا وافترست بديهتهم بشراسة وهم قابعون ساكنون ولا هم يحزنون.

أين نحن بين شجاعة شجعان وبسالة البواسل؟ بالتأكيد بقينا وسط بسالة بالمعنى الآخر بدون بواسل..أين نحن بين أحياء وأموات في هياكل من عظام ولحم وبلاستيك وحديد، يسوقون بعضهم بعضا، في سباق مع الزمن بين أعاصير وفوضى الاستهلاك العشوائي. روائح كريهة تصدر عن ملفات قديمة في مباني إدارات وهيئات مقفلة. كتابات غش ونفاق تسطر بأيادي أطفال أشقياء وبقايا أحياء في مدن قديمة تحكي تاريخا خرافيا تتساقط وتتآكل وبنايات اجتماعية رقيقة مغشوشة تفوح بقيء رجال سياسة تحت قبة سوق النخاسة يستأنسون بأنانيتهم وسط ضجيج ونهيق جهل وتمييع يصم الآذان . كتلات جثامين لموتى راجلين يحملون نعوش بعضهم البعض، يمشون الهوينا نحو المجهول، يحلمون بالعيش الرغيد، يئنون تارة ويصرخون تارة أخرى في طقوس نحيب وعويل تذكر السامع بنشيج فرامل الحافلات الرديئة ترتل للأبد أغاني الخلود والوعد والوعيد، تبجيلا وتعظيما للفردوس المفقود. همسات الأمل ضاعت وسط زغاريد بطش وأنانية وزجر وبؤس إنساني وفقر عاطفي مقفع… كثبان رمال لامتناهية تزحف مع الرياح الشرقية عبر الزمن لتغشي أبصار الفهم تعجز التمييز والإدراك لتخفي زوابع أيديولوجيات استلاب تهب عبر الحدود منذ زمن ليس بالقصير في فضاءات مدن الإسمنت والإسفلت المتسخة راكبة ذنب رياح تدعي حضارة بهتان، ونفاق وكذب صبغت حيطانها بألوان جمار العار والهزائم وألسنة لهب الضياع في القرون الوسطى الهمجية …أنين أنفس حائرة تخر خاشعة بين ظلاميات موت وضبابيات وهم بالحياة تحت ركام أزبال أدوية الأمراض النفسية والعقلية، دفن أصحابها أنفسهم بين حصائر تبن صفراء لونت وروت هياكل معدنية صدئة متحركة تلفظ بقايا دخان مطاط وأكسدات محترقة . أصوات بئيسة يائسة تختلط بأوامر ناهية محذرة مزمجرة تصدر عبر أبواق مزعجة مدفونة بحرص في كل مكان بما في ذلك صناديق مذياع وتلفاز في أركان مساكننا وأحيائنا، متأرجحة بين الواقع والخيال تنغص عيش من ساقه سوء حظه أن يكتوي بلدغات تراتيل أصحابها وتغوص مسترسلة في ذاكرة الأوهام السمعية البصرية لتعشش في سراديب أحياء الفقر والإدمان وأذهان يائسين محبطين لكي تشكل في النهاية هوية جاهزة بمقاييس من فقدوا هويتهم وتنفيهم للغيب والعدم منسلخين عن أنفسهم وذواتهم في هوة سخافة سحيقة إلى الأبد..

أصبحنا نتعود شيئا فشيئا وبكل ثقة على هش لحوم بعضنا البعض نخطو خطوات فخر واعتزاز بين سيقان الديك البري الأعور البادي لنشارك بوجودنا الأسطوري الأزلي كأبطال في أحداث مذهلة عبر فترات تاريخ مهازل لا تنتهي تدق فيها طبول التهريج والتمييع والجهل والتجهيل في استنساخ جزئيات من هنيهات نمطية من أوهام بالسعادة في تناول جرعاتنا اليومية من الشقاء والبؤس والألم يركب فيها سحرة وبهلوانات القرون الهمجية خيولا وبوما وفيلة . مسلسلات رعب تفصل فيها الرؤوس من أجل تصديق أحجيات ماضي مزيف، والإيمان بأوهام وأكاذيب حاضر يحتضر، والرقص على إيقاعات زغاريد خرافات مستقبل يضحك ضحكة صفراء بلهاء.

بالأمس القريب، أصبح بعضنا فجأة ينتمي قلبا وقالبا لدول جارة في الشمال، ومستعدا للفداء من أجل فريق كرة القدم المحبب إليه. يكيل بمكيالين، يحط من علمه الوطني ويرفع علما لا يفهم سر ألوانه فيما أصبح بعضهم مهووسا آنيا بارتداء أي هوية بلد أثر فيه خطاب من خطب سياسييه المحنكين أو اقتنع بمغنية بصوت مبحوح تغني رداءة مرتجلة أو ممثل يقوم بدور عاشق مهووس في فيلم من أفلامه المغناطيسية الخيالية المحشوة بالسفالة.

العالم يتحرك فيما يبقى بعضنا يتسلى بمشاهدة صور متحركة مضحكة لأحدية لامعة تدوس على أحدية أقل لمعانا لتدوس الأخيرة بدورها على أقدام حافية إلا من نعال الفقر والحرمان تنقب بأظفار لم تقلم لسنين في ثقوب مهزلة تاريخ مضبب عن عظام وجماجم كائنات خرافية اسودت بالوحل وعن شعر لشخصيات سادت يوما وانقرضت قد يكون أسودا أو أشقر. تخور إبستيمولوجية أسياد أسيادنا، جلنا ينعتهم بتجار الرذيلة، في مستنقعات الهوس والكآبة صنعناها بإهمال أنفسنا وعقولنا تغنى فيها أغاني الاكتئاب المبتذلة الرخيصة ملطخة ببول بعير وبمداد أقلام سفهاء مخبولين، زنادقة مرتزقة مؤجرين، ملئت جيوبهم بقش رخيص لا يغني لئيم ولا يسدد ثمن تبان كفن بئيس يتيم. قرون طالت من فوق رؤوس وتطاولت، رقت وهشت ثم سقيت فاخضرت . احمر معدنها من جديد فضربت وصقلت ومضيت حتى أصبحت تلمع على شكل سيوف وهمية تبحث عن أعناق ورؤوس أينعت واشرأبت من وراء حروف لاتينية فحان قطافها، منظر أصبح مبتدلا لأفراد أسرة في حي من أحيائنا يتناولون طعامهم أمام شاشة تعرض صور القتل والدمار، وحول الأحداث ينكتون،صور لرصاصات معدنية مصقولة من قرون وهمية من تراب تسبق سرعة رؤية الناظرين تسيخ وتستقر وسط نخاع جماجم من قدر لهم قدرهم أن يكونوا في جزء من المائة من الثانية في مكان معين بالذات ففقدوا غرة ما كانوا عليه يتجادلون ولكن لسوء حظهم ليس إلى حين . قرون زعم أصحابها استحالة إعادة حساب عددها بالسنين ففضلوا حملها بزهو فوق أرأسهم…يهللون عن جهل بمعاني مخطوطات كتاب جميل يتلون آياته بنغمة حقد دفين.. يموت بعضهم غيظا ويدفنون آمنين جنبا إلى جنب من ينعتونهم بالردة والجهالة لنتناوب كلنا على الدعوة لهم كلهم بالرحمة وليلقبوا كلهم في الأخير بالسعداء الأزليين. أميون هانئون في رغد الحلم ينعمون، أصبحوا بغتة متقلبي المزاج، يحيكون مكرا وغدرا، يتأبطون بحذر بأحزمة سراويل يتحكم فيها عن بعد جنود خفاء عبر رياح شرقية جافة، أحزمة ناسفة تدق دقات صامتة متعطشة للدم ويشير إلى ساعة الموت، يتصنعون الزهد في العيش ويضعون أنفسهم في مرتبة الأمراء وللأطفال يحرضون. حذرون مترقبون لخطيئة تصدر عنك ليقلعوا عنك هوية أجدادك ويبطشون بك ويحرمونك وأهلك من حياة ورزق منحا لك من رب عظيم، بدون أن يجادلوك ولم يقدروا فعل خالق تنكروا لخلقه ونافقوه فينعتونك بالسفاهة والبهتان من أجل حفنة حنطة أو شعير وليلقبون سارقك بالأمين…

أقول قولي هذا حامدا ربي أن مكان وجودي لا زال ينعم بسلم وأمن وأمان يحسد عليه، طالبا من قدري أن لا أشهد يوما يحكم أحدهم على واحد منا بارتجالية مراهق بالمجون أو يلقبه بالمرتد المجنون، فيصبح من عداد المفقودين، أو يحكم عليه آخر عن بعد حكما غيابيا فيفر من حوله الأهل والأقرباء والأحباء والبنون، ويصنف في غياب عدل منصف في مغبة صنف المنبوذين، أو يرمى بين جملة قابعين في زنزانات قهر يشاركهم فضائهم فراغ مخيف يملأه صراصير جياع مفطمون، لا يعرفون نوما ولا يجد لهم المرء حلا أو تفسيرا إلا عضا ونغص حلم وأكثر مما نحن له متصورون. في جزيرة من جزر الوقواق لا يعرف مكانها أحد ولن تجد لها دلالة في مرجع أو قاموس أو تحت شجرة زقوم. جزاء لمن أراد أن يعمل صالحا فأمسى ولم يصبح في يوم لن تشرق فيه شمس، ولن يبرق فيه برق أو يزمجر فيه رعد، لا نور ولا رغد عيش بل بردا قارسا وظلاما حائكا إلا من نزلت عليه رحمة ربه، عسى أن يكون مثلا يضرب به للمغفلين الآخرين مثل الأولين. أسطورة كابوس سجعت فلم يقدر على حل شفراتها جن ولا بشر هب ودب إلا من أغمض عينيه ونام فأصبح فجأة من الحالمين.

اللهم لا تآخذني إن كرهت نفسي يوما قد نحتاج فيه إلى بلدان من العجم في الغرب أو من حفدة عبد الوهاب في الشرق، لتوحد صفوفنا وتصفي مشاكل صدرت لنا في علب قمامة إلكترونية، وأوهاما وأحلاما استوردناها عبر الأثير لم تكن قط على قياسنا لتفرض علينا عن مضاضة حلولا ستزيد في انفصالنا عن أنفسنا وتربك مكونات سلوكاتنا.

 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version