طنجة ليست هي فقط التاريخ الطويل والأحداث المتراكمة في الزمن، والمجد الذي لن يعود، إنها أيضا الأساطير الغارقة في بطن التاريخ، لأن مدينة ولدت قبل أن يولد التاريخ، أكيد أنها اغتنت كثيرا بالأساطير التي كانت تحكم الإنسان والحيوان في الحقب الغابرة.
الأسطورة الأكثر قوة وتداولا هي التي تقول بأن هرقل، وهو شخصية طنجاوية مميزة، دخل في صراع مرير مع “أطلس”، وهو حسب الميثولوجيا اليونانية حاكم الأرض الممتدة من بين الشمال والجنوب، أي ما بين إفريقيا وأوروبا حاليا، وأن هذا الصراع المرير انتهى بانتصار صعب لهرقل، فقرر أن يرتاح بطريقته الخاصة من ضنك الحروب المتواصلة، لذلك فصل إفريقيا عن أوروبا بعضلاته القوية.
أجمل ما في التاريخ العبر والأساطير، وللجميع أن يتصوروا كيف كان هرقل قويا إلى درجة أنه دفع بيده اليمنى القارة الإفريقية نحو الجنوب، والقارة الأوروبية نحو الشمال، ثم جلس في الوسط يستحم بتلك الشلالات الخرافية المتدفقة التي كانت تملأ المضيق من جهتين، من البحر الأبيض المتوسط ومن المحيط الأطلسي.
رهبة التاريخ
لكن الأسطورة لم تبين جيدا ماذا فعل هرقل بعد ذلك، وكثيرون يقولون إنه عاد إلى مغارته التي توجد حاليا في كاب سبارطيل في طنجة، وهي مغارة لا يزال الداخلون إليها يحسون برهبة التاريخ وتراكم الأساطير، كيف لا وهي المسكن السابق لهرقل العظيم.. الذي فصل قارتين عن بعضهما البعض؟
إنها خليط من الأساطير والحكايات العجيبة التي يمكن تصديقها، وأخرى تبدو عصية على الفهم. لكن هذه المغارات، تظل دائما قادرة على العودة بزائريها آلاف السنوات إلى الوراء، منذ تلك الأيام الغابرة التي كانت البشرية هي غير ما هي عليه الآن. أيام كان البشر يتصارعون مع المخلوقات الغرائبية، فينهزمون تارة وينتصرون تارة أخرى، وأيام كانت الديناصورات تحكم العالم وتفرض سطوتها على كوكب الأرض، وربما قبل ذلك، وربما بعد ذلك… والله أعلم.
بعد الطوفان
توجد مغارات هرقل في المنطقة التي تفصل بين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، وهي منطقة، وفق شهادات مؤرخين، عرفت الكثير من الأحداث والوقائع التاريخية الحاسمة أيام كان العالم يعيش على وتيرة مواجهة عنيفة بين الكائنات البشرية وبين كائنات خارقة تشبه وحوشا ضارية تأتي من أمكنة تحت الأرض أو من أعماق البحار.
مغارة هرقل أيضا، هي من بين الأمكنة القليلة التي عُرفت من أمد طويل. ويقال إنها المكان الذي ظهر مباشرة بعد الطوفان، وأن طيورا كانت على ظهر سفينة النبي نوح طارت قليلا وعادت إلى السفينة وعليها آثار طين، فصرخ من كانوا على متن السفينة “طين جاء.. طين جاء..” فسميت المدينة آنذاك طينجا.. وهي التي أصبحت اليوم طنجة، وللإنسان أن يستمتع بالأسطورة أفضل من أن يفكر فيها ويحللها.
خرافة أم واقع؟
مغارات هرقل موجودة على حافة مياه المحيط الأطلسي، وعند المد فإن الأمواج تتكسر داخل المغارة، وهي واحدة من الحالات النادرة التي تملك فيها أمواج البحر حق الانسياب داخل مغارة. وخلال أيام المد الكبير، فإن رذاذ الأمواج الكبيرة يلفح وجوه زائري المغاربة، فيمنحهم إحساسا غريبا بأنهم في عمق غرفة مشرعة النوافذ في بطن المحيط.
الأساطير في طنجة موجودة في كل مكان، لكن وجودها أكبر في مغارات هرقل. وغير بعيد عن هذه المغارة توجد آثارقدام كبيرة على الصخر يقال إنها آثار أقدام هرقل، الذي كان يتحرك في تلك الجبال المحيطة بالمغارة تحرك السمكة في الماء، خصوصا بعدما انتصر على كل أعدائه، بمن فيهم أطلس، الذي غرق في المضيق بعد هزيمته.
وبغض النظر عن الأساطير، فإن المؤرخين يقفون اليوم عاجزين عن فهم طريقة تكوّن تلك المغارات ومن حفرها، هل هي عوامل طبيعية أيام كان البحر يغمر جزءا كبيرا من اليابسة، أم أن بشرا ينتمون لحضارات غابرة سكنوها لكي يحموا أنفسهم من الأخطار، بما فيها أخطار الطبيعة وأخطار الحيوانات الضارية. إنها مغارات لا تزال تحمل إلى اليوم الكثير من رهبة تلك الأيام الخوالي.
تآلف السماء والأرض
الناظرون إلى البحر من داخل المغارة يندهشون لذلك التآلف بين السماء والبحر، حيث أن زرقة البحر تختلط مع زرقة السماء، لكنهما لونان ينفصلان عبر خيط رفيع يفصل ما بين البحر والفضاء.
مغارات هرقل هي اليوم قبلة لعشاق تأمل غروب الشمس، حيث تبدو حمرة الشمس وهي تغرق في الماء كما لو أنها نار متقدة تخرج من أعماق الماء، لذلك فإن ساعة الغروب تعرف وجود عدد كبير من عشاق هذا المنظر الطبيعي الخلاب، الذين يتأملون تلك الشمس الغاربة والمشتعلة وكأنها ستغرب إلى الأبد.
خارج المغارة، هناك عالم آخر من عشاق الجلوس على مقربة من البحر وهواة تناول سمك السردين المشوي وعشاق الصيد بالقصبة والصنارة، وأولئك الذين لا يستطيعون التخلي عن رهبة الجلوس أمام بحر بلا نهاية إلى ساعات متأخرة من الليل، وكأنهم كهنة في معبد.
الأسطورة أفضل من الواقع
لكن مغارات هرقل ليست مجرد أساطير وغروب وامتزاج زرقة السماء بزرقة البحر، إنها أيضا تعكس مشاكل مدينة يبدو أنها عاشت أكثر من اللازم وأن ساعة نهايتها أزفت. فهذه المغارات كانت إلى وقت قريب موضوع نزاع بين شخص يملك أراضي مجاورة وبين المجلس البلدي. فالرجل يقول إن المغارة في ملكه وليست في ملكية لا هرقل العظيم ولا المجلس الجماعي الضعيف. وهو في كل هذا وذاك يدلي بوثائق رسمية تقول إن المغارة توجد على أرض هي في ملكيته.
وعندما بدا أن هذا النزاع انتهى، حدث شيء آخر، وذلك عندما بدأت أجزاء من هذه المغارات تتعرض لأضرار، وأغلق جزء مهم منها إلى الأبد، والسبب هو عملية بناء فندق من خمسة نجوم مباشرة قرب المغارات، وبذلك بدا جليا ان نكبة طنجة بلا نهاية، حيث يمكن تدمير معلمة تاريخية وأسطورية عمرها مئات الآلاف من السنين، لمجرد أن شخصا ذا نفوذ يريد أن يبني فندقا فاخرا.
في كل الحالات، فإن العيش على أساطير طنجة الممتعة يبدو أفضل بكثير من الاستماع إلى واقعها الحزين.