هي الأم، لو قمنا بتعداد خصالها وفضائلها وأهميتها داخل المجتمع فلن نفيها حقها ، يكفينا فخرا ما ضمنه المصحف الكريم و السنة الطاهرة من شهادات تصب كلها في إعطاء الأم، والمرأة بصفة عامة، المكانة  المتميزة  التي تصل مرتبة التشريف ، حيث قال في حقها نبينا محمد صلى لله عليه وسلم “ الجنة تحت أقدام الأمهات “ أو كما قال الشاعر : الأم مدرسة إن أعددتها  # أعددت شعبا طيب الأعراق .وهذا إن عرفت قدرها ودورها الريادي في بناء المجتمعات، اعتمادا على التنشئة الحسنة للأجيال، المبنية على جعل  كتاب الله وسنة نبيه المنهج الذي ترتكز عليه كل أمور التربية والتعليم ، ليكونوا قادرين على النهوض بالعالم الإسلامي، اقتصاديا ، وعلميا  ، وسياسيا، وحتى دينيا لتمثيل الإسلام والمسلمين أحسن تمثيل في كل بقاع العالم. وفي هذا المقام وجدت نفسي مضطرا  لاستحضار تجربة  أمي، وبالمناسبة هي أم لكل المغاربة الأحرار ، في مقارعة مطبات الحياة وقساوتها، لتساهم قدر الإمكان في تلك التنشئة التي نرجو الله عز وجل أن يكون راضيا عنها ، وتكون ممن شملتهم شهادة نبينا الأعظم السالفة الذكر. فحين تفقد أم وهي في ريعان شبابها الدرع الواقي، وهو زوجها الذي من خلاله كانت ترى النور بعد أن فقدت أبويها ، وكباقي البدويات اللائي اخترن العيش رفقة أزواجهن في المدن، حيث تكثر فرص الشغل،  بالإضافة إلى استنشاق نسيم حضارة مادية تنسيهم سنوات الضياع. حيث كان الفقر  والجهل هو السمة الطاغية على معظم البوادي المغربية إبان فجر الاستقلال ، أضف إلى هذا كله المسؤوليات التي تحملتها أمي وباقي أمهات المغاربة الأحرار في القرى وهن في حداثة سنهن ، من تربية للإخوة الصغار ، ورعي للمواشي ، وكنس وطبخ ، وتنظيف للملابس ، وسقي ، ناهيك عن السمع والطاعة سواء للزوج إن كانت متزوجة ، أو للأبوين أو من كان يكبرها سنا من الإخوة ،ولاسيما الذكور منهم ، فكانت تنعت الأخ الأكبر ب “ عزيزي“، بضم العين، الذي كان يلعب نفس الدور الذي يلعبه رب الأسرة في غياب الأب، المهم هو أن المرأة القروية كانت تعتبر هذه المهام التي كانت تزاولها بلا كلل ولا ملل أمرا عاديا لا ينتقص من قيمتها كامرأة ، وعلى العكس من ذالك إن لم تكن تتقن إحدى المهام التي استحضرنا منها النزر القليل ، فكانت توصف من طرف قريناتها “ بالغيرالمقدة“ أي الغير الحادقة، فحين وطأت قدما أمي مدينة طنجة الدولية آنذاك ، كان مقامها أول مرة بحي“ السوق الداخل“ وبالضبط  “بالسقاية“ حيث كان هذا الحي يعج بمختلف الأجناس البشرية من يهود وإسبان ،وفرنسيين….وكذلك بمختلف الأنشطة الاقتصادية ، وبالتالي كان لزاما عليهما أن يحسنا التعامل مع هذا الواقع الجديد، الذي يختلف كليا عن ما عايشوه في إحدى مداشر قبيلة بني عروس،فالزوج وجد نفسه منغمسا في حرفة لم تكن تخطر على باله وهي : “الحدادة“ حيث اكتوت عيناه بلهيبها وشظاياها ، أما الزوجة اكتفت باستقرارها في البيت الذي كان يضم أفرادا من أقارب الزوج الذين سلكوا نفس الطريق الذي سلكه أبي، وهو النزوح إلى المدينة من أجل البحث عن حياة أفضل ، وكونوا بذلك عصبة تقيهم شوكة عالم مليء بالمتناقضات ، كما أن الأم كانت بلباسها الذي كان علامة مميزة لنساء طنجة والشمال بصفة عامة وهو :“ الحايك “ كانت تعتبره اللباس المناسب الذي  يخفي زينتها، وفي نفس الوقت حتى لا تتطاول أعين“ البراني“ ،الأجنبي، على جسدها والذي في الحقيقة أصابه اعوجاج من كثرت حمله للحطب وما شابهه ، ففي هذه المرحلة الحرجة من حياة أمي وأبي كانا همهما الوحيد، هو بناء أسرة صغيرة يستطيعان أن يوفرا لها على أقل تقدير، القوت اليومي فقط ، فشاءت الأقدار أن تتسع دائرة الأسرة، بان رزقا بخمسة أبناء ذكورا وإناثا، ناهيك عن الذي غيبه الموت وهو في المهد ، فأمام هذا الوضع الأسري الجديد لم يكن بمقدور الأب أن يكتفي بالدخل الزهيد الذي كان يجنيه من وراء“ الحدادة “، ليعيل أسرة تتكون من ستة أفراد ، فما كان له إلا أن يتحين الفرص أينما وجدت ، وإن اقتضى الأمر أن يهجر البلاد ، من أجل توفير لوازم التربية والتعليم ، فكان الله رحيما برب الأسرة ، حيث أتيحت له فرصة العبور إلى الضفة المقابلة لعروس الشمال، وبالضبط  الإستقرار“ بصخرة جبل طارق“ التي احتضنت آنذاك عددا مهما من ساكنة الشمال نظرا لقربها الجغرافي وكذالك لتوفرها على فرص للشغل بنسب أكبر ، حينها تنفست الأم والأسرة بكاملها الصعداء، حيث بدأ الأب يدعم الأسرة بكل مستلزمات الحياة من ضروريات وكماليات ، وهنا ستلعب الأم دورا رئيسا في استقرار الأسرة، والبحث عن مأوى جديد لها يقيها حرج الوقوف الشهري للمكري أمام عتبة الباب ، فالمبلغ المالي الذي كان الأب يضخه في خزينة الأسرة ، كانت الأم تغطي به مصاريف الدراسة و المأكل والمشرب ، و في نفس كانت تدخر منه النز القليل ، لتفاجئ الزوج ذات يوم حين فكر في ايجاد مأوى جديد للأسرة يحفظ لها كرامتها ويساهم في استقرارها،  بأن أمدته بمبلغ محترم يساعده على شراء قطعة أرض بإحدى الأحياء الشعبية والهامشية لطنجة وهو حي بنكيران أو ما كان يطلق عليه حينها “بحي الشوك“ نظرا لخلو هذا الحي آنذاك من أي أشكال التعمير إلا من أراض معشوشبة صالحة للزراعة وللدفن أواخر السبعينات من القرن الماضي  ، وعلى ذكر الدفن، هذا ما سيصدم  الأم ذات يوم، إذ لم تهنأ الأسرة بهذا الاستقرار إلا سنة ، حيث استجاب ملك الموت لنداء ربه بقبض الروح الطاهرة للأب وهو في مقتبل العمر  بعد صراع مع المرض، الذي تكبدت من خلاله الأم خسائر جمة من الناحية النفسية ، حيث وجدت نفسها تدخل بمعزل عن ذاك الدرع الواقي آلا وهو “الزوج“ في تجربة حياتية جد قاسية ، إذ ازدادت قساوة باحتضان أسرة تتكون من خمسة أبناء، الأصغر منهم رضيع لم يتجاوز السنة من عمره ، فهنا ستبدأ مرحلة التربية والتنشئة التي نتمنى من العلي القدير أن يتقبل منها ، فكأي أم حاضنة أرملة لم تكن لتطمئن لأحد في تربية أبنائها إلا من أقرب المقربين لها ، شاءت الأقدار أن يسخر الله لها أناسا نحتسب أجرهم وتضحيتهم لنصرة هذه الأسرة، من قريب ومن بعيب ليشتد عودها لله، و استطاعت أمي التي هي أم لكل المغاربة الأحرار، أن تتعايش مع هذا الوضع الجديد، لترفع شعار التحدي، ومع نكران للذات، ضاربة عرض الحائط رغباتها ومتمنياتها وحياتها عامة، لخدمة أبنائها الخمسة ،وإيصالهم إلى المقام الذي يرضى الله ونبيه عنه ، فكل منا شق طريقه إلى الأمام وأخذ حظه من هذه الحياة، وأصبح قادرا على تحمل المسؤوليات، وتمثيل هذه الأسرة أحسن تمثيل . وفي حقيقة الأمر، اليتيم ليس من فقد أبويه أو أحدهما، ولكن اليتيم من ابتعد عن الله وزاغ عن طريق الحق ، وهنا نرفع القبعة لهذه الأم أطال الله في عمرها ،التي لا تتقن من القراءة إلا سورة الفاتحة التي تستند إليها لمناجاة الله في صلاتها، وبعض الأدعية لا تحسن نطقها لتدفع بها كل كرب وهم، أو تطلب بها الخير ليعم الجميع ، حيث كانت حريصة كل الحرص على  أن يمتثل و يتقن أبناؤها تعاليم الدين، لتؤكد لهم في آخر المطاف على ضرورة الارتباط بالكتاب والسنة من أجل خلاصهم دنيويا وأخرويا ، فنسأل الله عزل وجل أن يجود الزمان  بمثيلات هذه الأمهات المتقيات الورعات .وبالمناسبة أنا هو ذاك الرضيع الذي لم يتجاوز السنة من عمره .

شاركها.

تعليق واحد

  1. علي دمير on

    يا استاذي محترم قرأت مقال الشيق و استفدت . ان هذا الموضوع مهم جدا الأن أيام اخيرة زادت في مجتمعتنا جنايات المراة بطريقة وحشية جدا. بهذا السبب نشكرك الجهود الذي قمت به مع اطيب تحياتي والسلام عليكم

اترك تعليقاً

Exit mobile version