هل كانت كل هذه الضجة التي خلقها ”فيلم الزين الي فيك” في نفوسنا تحت تأثير القراءة المسبقة المحملة في أذهاننا من طرف صناع الحدث وتجار وسماسرة الخبر، بكل وسائلهم السمعية منها والبصرية، بسبب كونه يتضمن مشاهد خليعة أو كلمات نابية؟ هل مشاركة الفيلم في مهرجان كان، بمحتوياته الفاضحة للتناقضات الاجتماعية والفوضى الأخلاقية بالمغرب كان السبب الأول أم هي الطريقة المتقززة التي استعملت لعكس واقع مظلم مخيف ومثير للاشمئزاز يقبع تحت أرجلنا؟ أو ربما كان خوف بعضهم على سمعة المغاربة من التدليس والتشويه المقنن وراء ذلك؟ الكل يعرف أن استعمال اللغة الساقطة لم تعد غريبة عن مسامعنا، فقد تعودنا عليها في العديد من القنوات التلفزية الأرضية منها والفضائية. لن يتهرب أحد من إنكار غزو الصور الخليعة الحية الصارخ لبيوتنا والمحشوة في الكم الهائل من الأفلام والمسلسلات المستوردة، الأصلية والمدبلجة كما تعودنا عليها في مهرجانات كثيرة نذكر منها مهرجان موازين كمثال. الكل يعرف كذلك أن الكلمات الخليعة أصبحت لغة مبتذلة وعادية في الأوساط الشعبية مثل ما هي مقبولة في الأوساط الراقية، بل لم تستثني حتى قبة البرلمان، بزلات ألسنة محرجة لا ترقى لحجم المسؤولية الملقات على عاتق المنتَخَبين، بدون أن نستثنى آلاف من أطفال وفتيات وتلاميذ وتلميذات صغار وكبار وطلاب في في حواراتهم في المدارس والجامعات كما في الشارع. وحتى بين أفراد الأسر المحترمة، الكل أصبح يشتكي من هذه الظاهرة الخطرة التي أخلت بالحياء وانتشرت في الأماكن الخاصة والعمومية مثل دخان السجائر. الجميع يعرف مدى تأثير العنف اللفظي والسفاهة اللسانية على النفوس. الكثير منا باتوا يتجنبون الخروج مع أسرهم في الأمكنة العامة لتفشي ظاهرة الاستفزازات الكلامية التي أمست تطرق بإلحاح مسامع الكل وتجرح مشاعر كل محتشم أو من كبر في بيئة أسرية محترمة. كبارنا كصغارنا، لم يعد أحد يسلم من التعرض للغة اللقطاء والمنحرفين الوقحة والتي تفشت بشراستها الجارحة حتى بين الكثير من الآباء والأمهات أمام أبنائهم ، ألهذا أثير كل هذا الصخب من الغضب حول الفيلم؟ فرضيات وتخمينات لا أظن أن باستطاعتها الوقوف لحظة أمام هبوب نسيم فبالأحرى أمام هبوب رياح. موضوع الدعارة ليس بجديد كذلك، وسبق ان قرر دمجه ضمن المقررات الدراسية الأدبية في ستينيات وسبعينات وثمانينيات القرن الماضي تحت أضواء كتابات أدبية شيقة شفافة لكتاب محترمين نأخذ الروائي الكبير نجيب محفوظ كمثال في روايته “زقاق المدق” برفقة “حميدة” في تجاربها الحمراء مع الضباط الإنجليز في حياكة للأحداث تعكس روعة البناء الدرامي والبراعة في أسلوب الحكي الشيق.
موضوع تفشي الدعارة تناولها الكثير من كتاب السيناريو والمخرجين العالميين، مثل المخرج مارتن سكورسيسي في فيلمه “سائق التاكسي” الذي أدى دوره باحترافية مبهرة الممثل المعروف روبير دينيرو، ولقي نجاحا عالميا منقطع النظير، نظرا لعمق الأحداث والمهارة في حبك القصة والسيناريو وأداء الممثلين العالية. فيلم سائق التاكسي غزى كل قاعات السينما في العالم وحاز على جوائز في مهرجانات كبيرة محترمة للمستوى العالي في كل الجوانب، مثل الذوق الراقي الفني في اختيار المشاهد وتجنب الوقوع في الفراغ المبتذل والتكرار الممل. هنالك الكثير من الأفلام الأخرى تطرقت للموضوع بسرد قصة عادة ما تبدأ بطرح مشكل معاناة ضحايا في بؤر الدعارة تنتهي بنهاية الفيلم، الفيلم الفرنسي “تايكن” مثلا للمخرج بيير موريل يحكي قصة أب يبحث عن ابنته المختطفة كي يخرجها من براثين الرذالة والبغاء ليمر عبر تجارب كادت تودي بحياته تنتهي بإنقاذ الفتاة.
أتساءل ان لم يكن الغضب الكبير الذي ضخ بعجالة في أروقة الدعاية المحلية المرئية منها والسمعية والذي شحنت به أفئدة وعقول أغلبية المشتكين والغاضبين في قراءات مسبقة لفيلم تجريبي تجاري عادي يفترض أن يكون مآله التجاهل والنسيان، إن لم يكن صاحبه يحمل إسما براقا لمع بتجارب دويه في صناعة الأفلام فصار بمثابة جواز ديبلوماسي يخول له الولوج لمكاتب التأشيرات بترحاب يليق به،ليمنح دعما ماليا من جيوب مؤديي الضرائب. أعطى الإسم العائلي بنفوده ومعارفه جرأة غير مسبوقة في تصوير فيلم إيباحي لو ضبط “درويش” من “الدراويش” وراءه لكان وراء القضبان يتأرجح بين السين والجيم لشهور إن لم تكن سنوات. لكنه على عكس ذلك تم التصوير والتركيب بسلاسة وهدوء إلى أن وصل الفيلم يقطر دما وسفالة إلى مهرجان عالمي كبير، بكان. هنالك الكثير مما خفي وراء شرارة غضب الغاضبين قد يكون أعظم.قد تبدو شرارة الغضب الآنية لذى الكثير كفقاعات صابون تختفي فور ولادتها، لكن ومع ذلك أظن أن هنالك وراء الأسوار نار مؤججة تحت التبن لم تكن إلا وليدة انفعالات عقائدية وأيديولوجية متعددة ومتناقضة الجوانب والمصالح . على سبيل المثال، الإصرار على إقحام صورة الزبون الخليجي الثري ضمن صور الشريط المتكررة المشاهد بعباءته البيضاء وعلامة الصفر الأسود فوق رأسه لم تكن ليمر عليها المشاهد مر الكرام، صور مليئة بالدلائل المشفرة والإيحاءات المثيرة للاضطراب والقلق والحيرة والارتباك في أذهان أشخاص كثيرين يحملون خلفية شعائرية مثالية تسكن أعالي السماء، أناس يلبسون رداء البراءة والسذاجة المفتعلة يقفون بأقدام حافية هاشة على أرض واقع كله خليط من التناقضات المزدوجة.عقلاء ، غافلين ولامبالين اختاروا غض الطرف عن ما اشمئزت منه نفوسهم من ألغام الرذالة واللاأخلاقيات ، وفضلوا دفن رؤوسهم في الرمال فصارت الرذيلة في أذهانهم مع صيرورة الوقت من المنسيات، صور في الفيلم تحمل دلالات ومغازي وتبعث من بين ثناياها صدمات معنوية عميقة وقوية للمرجعية المقدسة والحمولة العقائدية المنتهكة. هذه المرجعية التي يفرض أن تحرس وتجلل من طرف زبائن الدعارة المحترمين، تقديرا لمشاعر ملايين من البشر يحلمون يوميا بالحصول على تأشيرة وكم من المال يصنفهم ضمن محظوظين ينعمون بسعادة ارتياد ثياب لم تخاط، تحمل في بياضها رمز القداسة والنقاء، تنسيهم خطاياهم وهفواتهم، في طريقهم إلى ديار هؤلاء السياح الأغنياء طلبا للبركة والمغفرة.
هناك الكثير من الحيثيات التي تثير غضب مشاهد الفيلم، تتمركز على رأسها صيغته الإخراجية الاستفزازية ،والتي تتسم بجرأة قوية غير سابقة في لعبة التحدي، في هجوم أعمى على الرموز والمسلمات في النفاق الاجتماعي المتداول، ليثير بلبلة في التوازن في العلاقة الإبستمولوجية بين المجتمع والصورة الباهية التي كونها عن نفسه. بمشاهدتنا للفيلم نقرأ سطور سيناريو غير محبك يردد بإلحاح نص رسالة بديهية معروفة، بتكرار ممل بعدد الصور الإباحية المتتالية. نفس الرسالة تتكرر في جميع اللقطات والمشاهد تردد بإصرار وصفا ركيكا بخطوط سوداء وحمراء لرواد بئر الدعارة المكرّمين يستمتعون جهرا بأعمال دنيئة تنخر المجتمع المغربي، هذا المجتمع الذي يتمثل في شخصيات انتهازية منحطة تبيع وتشتري في القيم. الفيلم بقوة صوره وأصواته يحاور العالم بفضحه واقع مؤلم ينفرد به المغرب دون سواه، كما يحاور المشاهد المغربي كضرير أبكم لا يستشعر ما يقع من حواليه. ما لا تتضمنه الرسالة الموجهة للمتفرج للأسف هو أن المواطن المغربي العادي قد يكون بالطبع أكثر وعيا وارتباطا بالواقع بكل معاييره وبمذاقاته، بهفواته وبنقاط ضعفه، وقد يراه من زوايا متعددة أعمق بكثير من ما يحاول عكسه مخرج الفيلم. المواطن البسيط بالتأكيد يدرك تلك الحمولات والمعاني الثقيلة التي يحاول أن يعكسها الفيلم بتلك الطريقة الماجنة المتهورة، وهو بالطبع واع ومدرك لحقائق الأمور بها بل أصبح مقتنعا بالتفاعل معها وتجنب الحديث عنها ، متحملا بمرارة وصبر كل تلك التناقضات التي خلقتها الظروف المعيشية اليومية القاسية، الاقتصادية منها والاجتماعية بأفراد حيه ومدينته وبثقافته، مع سوء فهم لنسيم التغيير اليومي بكل وسائله الترفيهية والاستهلاكية.يتنفس هواء الماضي بارتباطه مع التاريخ لا يفارقه ومع ذلك يحس بالرغبة في المشاركة في التقدم الحضاري والصناعي المدوي الذي تفرضه عليه الظروف الآنية في عالم كسرت فيه الحدود الإيديولوجية بالتعرض لشتى أشكال الذبذبات والإشارات القوية الصادرة من الأقمار الصناعية السابحة في أعالي السماء. تعود الغاضب ان يغض الطرف عن جوانب من مكوناته الهاشة ،والتي تتعرض لعقود لخدوش وجروح متتالية أحدثتها الانتهاكات الأخلاقية لآلاف من السياح الخليجيين والليبيين والأوروبيين على حد السواء يملؤون جيوب آلاف من تجار الرذيلة والوسطاء المحترمين. نظرا لإيمان الكثير من المشتركين في هذه التجارة بالجانب الربحي من الصفقة، إيمان آخرين اليقين بالموقف الموحد الذي يجمع العقلاء في اجتناب الفتنة والتعلق بالطمأنينة والتعايش مستفيدين من الدروس القاسية والتجارب الطويلة في طي الماضي والتأقلم مع البيئة الجديدة التي فرضها الحاضر، وكذلك بإيمان الكثير أن هذا الجرح المؤلم داخل كيان المجتمع، جرح لا تسلم منه سائر المجتمعات وهو تجارة بشرية قديمة متفشية في جميع بلدان العالم. المؤلم في الظروف الجديدة هو ان الكثير من أولاءك المهللين بالوصاية والقداسة أمام ميكروفونات الدعاية السياسية وتجار النزاهة والروحانيات صدقوا فجأة أكذوبتهم فخروا خاشعين أمام التأثير المنعش للدعارة وخصوصا الخليجية على الاقتصاد المغربي. من منطلق الدعارة الاقتصادية والسياسية، لن يصدق الدراويش البسطاء الأرقام الخيالية التي يصرفها حاملو الأصفار السوداء فوق رؤوسهم في سهرة واحدة تشكل مصدر رزق آلاف الأسر من البؤساء النازحين إلى المدينة الحمراء ، كتلات من ضحايا دعاية المحرك الاستهلاكي القوي للمواد الغير ضرورية وطامعون في الاغتناء السريع وفرض الذات وإلماع صورة اجتماعيه محتقرة. الصورة المستفزة للكم الهائل من الأموال التي تلقى على أجساد فتياتنا الهزيلة المنهكة بالسهر والفقر والجهل والاستبداد الاجتماعي، سواء في الفيلم أو على أرض الواقع تحك بالتأكيد على جروح دفينة مؤلمة تستفيق بإلحاح دبدبات الصور المتتالية الخليعة في الفيلم، صور متكررة بحوار مرتجل غير متناسق، صور تقطر دماء وجوه وأصوات تقيئ أخلاقي مستفزة للمشاعر لا تعني شيئا إلا التدنيس الإشهاري الرخيص بأعراض من يؤمنون بمثاليات المدينة الفاضلة وأوراق أشجار الفردوس. من المؤكد أن يكون المخرج قد وصل إلى أحد أهم أهدافه بعد اللغو والبلبلة التي أثارها الفيلم، بعد تلقي الفيلم دعاية محلية رخيصة لم يكن يحلم به، ففاق عدد مشاهدي الفيلم كل التوقعات. ليس هناك أدنى شك في أن الأهداف الأولية للفيلم لم تكن من أجل التوعية والإصلاح كما قد يدعي بعضهم، فالفيلم بالتأكيد يسبح بمهارة في قنوات الكسب التجاري المحض ،فكلل له النجاح بأعجوبة لما حققه من تأثير على ممتلكي الشركات الدعائية المرئية منها والسمعية. لن نغوص أكثر في تحصيل الحاصل ونتأمل في الشرخ الاجتماعي الأليم الذي حدث عند نهاية تصوير الفيلم وعرضه بين الفنانين المحترمين الذين ساقهم الحظ كي يعملوا ولو مكرهين في حقل مفخخ بالألغام جنبا إلى جنب مع من يحترفون المهنة التي استأجروا كي يمثلوها أمام الكاميرا، ومحيطهم الذي يكيل بمكيالين ولا يرحم من سقط ضحية أحكامه الانفعالية السابقة لأوانها.
لكن مهما يكن فالمشاهد التي يعكسها الفيلم ، بسخافتها وبرداءتها، أصدرت رائحة قوية في قاعات العرض الفارغة لسينما التسول المقنن، أمست حاضرة بقوة في ساحة الصحافة والإعلام تقض مضاجع النائمين وتحتهم على إيقاظ وعيهم الحضاري بالمسؤولية التربوية الخطيرة لآباء ومعلمين ومربيين للأجيال الصاعدة ، وكذلك كمهتمين اجتماعيين وأخصائيين نفسيين وصناع القرارات السياسية المسؤولة والحكيمة في مواجهة الآفات الاجتماعية الصعبة. بفرض مزيد من الرقابة الأخلاقية على كل ما يستميل مكيال الماديات على المعنويات. الجانب الإيجابي الأكيد الذي أراه في الفيلم، بغض النظر عن الفراغ والضعف في السيناريو والحوار والسرد وافتقاد عنصر المفاجئة، وكذلك للصيغة الغير مسؤولة التي كان من المفروض استبدالها بأخرى اكثر احترافية، حيث يبدو أن اختيار اللغة القوية في تطرق المخرج لموضوع الدعارة في المغرب فضحت محاولته الفاشلة في إخفاء ضعف البناء الدرامي وغياب التقنيات الفنية العالية في إخراجه ، ما أراه إيجابيا في الفيلم هو حث الجميع على الانتباه لأهمية السينما في حياتنا وخطورتها، الشيء الذي سيدفعنا أكثر للاهتمام والاستفادة من تجاربنا الفنية والسينمائية من أجل تقويتها ورفع مستوى ألإنتاج السينمائي بالمغرب. أفلام تتحدى التوازن الأخلاقي الاجتماعي ليست بالضرورة ماجنة أو تافهة بل قد تكون ضرورية إن هي تطرقت للموضوع بوضع الأصبع الصحيح على الجرح، وبالطريقة الأقل استفزازية الممكنة. تجاربنا الغنية في الميدان السينمائي علمتنا منح فرص أكثر للمهتمين بالميدان ومحاربة التهميش الفتاك بالطاقات، لكي نرقى بمستوى إنتاجنا الوطني للعالمية. تجاربنا مع الإنتاجات الرديئة هذبت أعيننا وجيوبنا وعلمتنا حسن الاختيار والتصنيف واجتناب الإسراف في دعم كل ما هو رديء ومستفز، وكذلك كمتلقين يجب ان نتجنب التعميم والحساسية المفرطة والإسقاطات السريعة، اهتمامنا الصادق سوف يجعلنا نبحث داخل مخزوننا الثقافي والأخلاقي عن شجاعة الحوار الشفاف مع الذات من أجل التصالح مع ضميرنا الجماعي وحسنا الفني والذي أصبح الكثير منا يتمادى في تكسيره بشتى السبل بمحاولة الهجوم الأعمى على كل ما هو فن وإبداع.
الفن ،كيفما كان، راقيا أو رديئا، يبقى مرآة لآلامنا وعيوبنا ومستوانا الحضاري والمعرفي بكل تناقضاته، الأعمال الفنية التي ننتجها ولو برؤيتها الأحادية، تعكس مستوانا الأخلاقي الذي من قد يكون مترديا ومنحطا. ليس من السهل أن ننزه دور الأعمال الفنية في عكس تشوهات اخترنا تجاهلها في خلفيات واقعنا المظلمة عبر صور مستفزة للمشاعر أو رديئة، لكن مع ذلك يبقى النقد البناء خير أنيس وأحسن رفيق للعمل الفني، ولكي ينمو يجب أن يتجاوز النظرة الضيقة الجاهلة.
الخطأ الذي يجب علينا تجنبه كجمهور معروف بعشقه للفن السابع ، يشجع الإنتاج السينمائي الوطني ويتطلع للعالمية في الإنتاج المحلي كما يؤمن بتعددية الرؤى، بالتعايش، وبالإيمان بالسلم والإخاء والتسامح، بالأخص في الظروف الصعبة التي يمر بها العالم العربي، هو مواجهة النظرة الأحادية الضيقة بالنظرة الأحادية الأضيق منها.