قبل أسبوع، توفي مواطن هولندي ملون، نتيجة الاستخدام المفرط للعنف من قبل الشرطة. في تعليق أولي للناطق باسم الشرطة، قال إن الوفاة حدثت نتيجة ألم عارض.
غير أن العالم الرقمي يسجل كل شاردة وواردة، إذ سرعان ما انتشرت صور الضحية، وهو يتعرض للعنف من قبل خمسة أفراد من الشرطة، غلاظ شداد. لم تنفع استغاثاته، ولم تنفع صيحات المارة. مات ميتش هينريكيس (42 سنة) على أرضية الحديقة العامة حيث كان يستمتع بحفل موسيقي.
وبعد انتشار الصور، عاد الناطق الرسمي باسم الشرطة ليغير تصريحاته ويعلن: من المحتمل أن يكون الضحية قد توفي نتيجة الإفراط في اتباع تعاليم التعامل مع الحالات الخطرة. صدر أمر بإيقاف العناصر الخمسة عن العمل إلى غاية انتهاء التحقيق، ومن المحتمل جدا أن تتابعهم النيابة العامة بتهمة القتل غير العمد.
قبل سنوات، توفي مهاجر إفريقي في طائرة بلجيكية، وهي جاثمة على أرضية المطار، بسبب استخدام «الوسادة» لإسكات الهالك الذي كان يصيح رافضا العودة القسرية إلى بلاده.
استخدام «الوسادة» لإسكات المرحلين قسرا كان إجراء روتينيا عاديا، إلا أن الشرطي الذي قام به آنذاك أفرط في الضغط على أنف وفم الضحية حتى انقطع الأوكسجين، فكانت الوفاة هي النتيجة المنطقية. على إثر هذا الحادث المأساوي أعلنت الحكومة البلجيكية الفدرالية إلغاء «الوسادة» من وسائل الضبط والإسكات.
قبل سنة عثر على جثة الوزيرة السابقة إيلس بورست مقتولة في مرأب سيارتها، وبسرعة استُنفرت الأجهزة الأمنية والقضائية للبحث عن الجاني.. بدون جدوى.
كاد دم الوزيرة يذهب هباء منثورا لولا صدفة غريبة. أحد السجناء بتهمة شرملة أخته، وجد المحققون لديه، في إطار التحقيقات العادية وإجراء البحث عن خارطة الجينات الخاصة به، تطابقا غريبا بين جيناته وبين تلك التي تركها قاتل الوزيرة على جثتها. وحينما جوبه بالواقعة اعترف دون أدنى مقاومة. حادث مقتل الوزيرة وفشل المحققين في العثور على الجاني، لولا الصدفة التي لا تتكرر، دفع البرلمان إلى إجراء تحقيق في النازلة.
ومن عادة لجن التحقيق في بلد مثل هولندا، أنها تأتي دوما بجديد. وما أسفر عنه التحقيق أن جهاز الشرطة راكم أخطاء على أخطاء منذ اليوم الأول لاكتشاف الحادثة، بل أكثر من ذلك، ذهب القاتل بنفسه إلى مركز الشرطة طالبا وضعه في السجن، وإلا سيقدم على عمل خطير.
يمكن القول هنا إن الشرطة لم تجد مبررا كافيا لسجن شخص جاء بنفسه إلى باب السجن، إلا أن هذا الشخص كان قد صدر عليه حكم بالسجن ولم ينفذ بسبب الخصاص في عدد الزنازن. والمجرم في هذا البلد يضمن له القانون زنزانته الخاصة المكيفة، وفي بعض الحالات يحق له أن يأوي في زنزانة مشتركة، لكن في حدود ضمان الخصوصية ولا مجال للاكتظاظ أبدا.
وزارة العدل، وعلى لسان مسؤولها الأول، قدم اعتذارا علنيا في البرلمان وأمام الشعب بسبب الخطأ الذي أودى بحياة مواطنة في بيتها، ووعد بعمل كل ما في وسع الوزارة حتى لا تتكرر مثل هذه الأخطاء.
ما يهم في هذا المثال الثالث هو «روح المسؤولية» وثقافة الاعتذار لدى المسؤولين حتى لو أدى الأمر إلى فقدان عملهم، مثلما حدث في مناسبات مماثلة سابقة. وفي المثال الأول أيضا نتلمس روح المسؤولية أولا عندما اضطر الناطق باسم الشرطة إلى تغيير تصريحاته، ثم أمر النيابة العامة بمتابعة التحقيقات باستقلالية تامة. وفي المثال الثاني عن الوسادة، فإن الحكومة البلجيكية لم تتردد في تحمل المسؤولية، ولكن بعد أن أدى مواطن إفريقي حياته ثمنا مقابل ذلك.
في بلادنا، تحدث أيضا حوادث مشابهة. أشخاص يموتون في المخافر، أو في الطريق إلى المخافر. غير أن الفرق بين «هنا وهناك» هو غياب الشجاعة لتحمل المسؤولية في بلادنا. قد يتم الانتقام من شرطي أو محقق أو «جدارمي»، إلا أننا لم نسمع بوجود لجنة تحقيق مستقلة عكفت على موضوع ما ثم كشفت عن نتائج تحقيقاتها، وإن أحدثت لجنة تحقيق، فكونوا على يقين أنها لن تصدر نتائجها حتى يشيب الغراب.