في عدد من مناطق المغرب العميق، العميق فعلا وليس العميق سياحيا، يحترم السكان الطبيعة بشكل لا يصدق، مثلهم مثل الكثير من الشعوب الأصلية التي تكن احتراما كبيرا للطبيعة وتتعايش معها في السراء والضراء.
في هذه المناطق، توجد الكثير من أشجار التين والزيتون، وهي أشجار تعيش طويلا جدا وتنجب، على مدى عمرها الطويل، الكثير من الثمر والغداء للإنسان، وعندما تشيخ وتتوقف عن الإنجاب أو تموت وتيبس أغصانها، تصبح صالحة لشيء آخر، وهو أن تمنح الإنسان الدفء في أيام البرد القاسية. لكن، هناك في عدد من قمم الجبال الباردة أو في أقاصي السهول الموحشة، لا يقترب الناس من الأشجار المثمرة التي ماتت أو شاخت.
صحيح أنهم يحتاجون الحطب في الشتاء أكثر مما يحتاجون الماء، لكنهم لا يقتربون من تلك الأشجار كما لو أنهم يحترمون عجوزا شهما استبد به العمر أو تحول إلى جثة بعد عمر مديد من البذل والعطاء.
هؤلاء هم بسطاء المغاربة، يحتاجون ويتعففون، يعانون ويتحملون، يجوعون ويشبعون، لكنهم يتذكرون دائما تلك الأشجار التي منحتهم الحياة لعقود طويلة، فلا يقتربون من خشبها اليابس، مع أن لا أحد يراهم غير الله سبحانه، وليس هناك أي قانون في العالم يمنع الناس من استغلال خشب الأشجار الميتة، لكن الناس لا يفعلون ذلك عرفانا بنبل أشجار لم تكن في نظرهم مجرد كائنات جامدة، بل تعايشوا معها كما يتعايشون مع بعضهم البعض، وهذا هو السر الذي جعل الإنسان يعيش بين أحضان الطبيعة لآلاف السنين من دون أن يعاني من الجوع، فالمجاعات بدأت حينما صار الإنسان يحتقر الطبيعة ويستنزفها حتى آخر رمق.
هذا هو الوجه الجميل من هذا المغرب العميق، مغرب العرفان بالجميل حتى للأشجار، لكن هناك الوجه القبيح، بل البشع لمغرب آخر، مغرب أشخاص لا يحرقون الأشجار فقط بعد استنزافها، بل يحرقون كل شيء، البشر الماء والهواء والبحر والشجر والحجر.
الوجه الآخر من هذه البلاد فيها قوم لو قدروا على بيعنا بالكيلو لفعلوا ذلك من زمان. لكنهم باعوا ويبيعون أشياء أكثر منا قيمة. باعوا بحارا بكاملها إلى الاساطيل الأجنبية وتركوا القليل منها نتعارك من عليه في الأسواق ونشتكي إلى الله من هول أسعارها. إنهم يتصرفون وكأنهم ورثوا هذه البحار عن أجدادهم وهي لهم لوحدهم فقط.
لم يبيعوا الأسماك فقط، بل يبيعون حتى ما نعتقد أنه لا يباع. باعوا كميات هائلة جدا من الرمال لبلدان أجنبية لكي تؤثث بها شواطئها القاحلة لجلب المزيد من السياح. أغلب المغاربة يسمعون أن المغرب يصدر الفوسفاط والطماطم والسمك، لكنهم لم يسمعوا أنه يصدر الرمال، لكن الحقيقة المرة هي أن الرمال التي نعتقدها تافهة وموجودة في أي مكان، حولت الكثير من صغار اللصوص إلى أغنياء فوق العادة. هذا هو المغرب، يحلم بعشرة ملايين سائح مثل عجوز شمطاء تحلم بعريس شاب، وفي النهاية تبيع رمالها لبلدان مجاورة تستقطب أزيد من 60 مليون سائح في العام.
لم يبيعوا الثروة المادية فقط، بل باعوا حتى ثروتنا اللامادية وتاريخنا الطويل. ومنذ زمن طويل بدأت عمليات بيع الأطنان من وثائقنا وتحفنا التاريخية التي لا تقدر بثمن، وهكذا غادرت أعداد هائلة من الوثائق والتحف الثمينة البلاد بطريقة تشبه تهريب الحشيش، لكننا نسمع باستمرار عن القبض على مهربي الحشيش في الموانئ والمطارات، بينما لم نسمع، ولو مرة، عن القبض على مهربي وثائق وتحف. ربما كان تهريب الوثائق يعتبر نوعا من الوطنية، مثلما حكى المؤرخ الراحل عبد الهادي التازي، حين قال إن شخصا اشتكى يوما للملك الراحل الحسن الثاني من تهريب الوثائق المغربية النفيسة نحو الخارج، فرد عليه الحسن الثاني قائلا: احمد ربك لأن النصارى سيعتنون بها أفضل منك!!
نقول لهم باستمرار إن هذه الفوضى التي لا نراها بالعين المجردة هي الخطر الحقيقي على مستقبل المغرب، فيقولون لنا إننا عدميون نزرع اليأس بين الناس. هم وحدهم يزرعون التفاؤل والحبور بين جنبات هذا الوطن. إنهم لا يدركون أن البلاد التي تبيع كل شيء تتحول في النهاية إلى مقبرة للنفايات النووية والكيميائية القاتلة، لأن الذين باعوا كل شيء في الوطن لن يتورعوا عن تحويل الوطن إلى مقبرة.
حتى فتات الأجرام السماوية التي تسقط بالصدفة فوق المغرب يتم بيعها قبل أن تبرد، والحيوانات والحشرات النادرة في المغرب انقرضت أو كادت لأن هناك شبكات تطوف المغرب من أقصاه إلى أقصاه وتبيع أي كائن يتحرك، بدءا بالعصافير والقنافذ والسلاحف، وانتهاء بالحمير الرمادية، التي كنا نعتقد أنها عوّضت أسود الأطلس المنقرضة، فصرنا في النهاية “لا سْبوعا لا حْمير”.