البرامج الانتخابية للأحزاب تقول في مناسبة الانتخابات أنها ستغرس الأشجار وتزرع الحدائق و المنتزهات وتشيد الممرات و الطرق و تخلق فضاءات إنسانية للعيش في مدن بدأت تتحول إلى غابة من الفوضى.. 

من المسؤول عن  تدهور حالة كثير من مدننا المغربية الجميلة؟

كيف حدث هذا الخراب بسرعة رغم كل البرامج والمخططات والدراسات وتعاقب الحكومات وتعاقب الشعارات وتعاقب السماسرة ؟

الدار البيضاء كانت نموذجية للعيش والراحة فتحولت إلى بركة آسنة. الفائدة ليست في التوسع العمراني بل في ما يواكبه من مستوى عيش وخدمات عمومية ومصالحة بين المجال والإنسان.

مدن المغرب التاريخية العتيقة كانت قمة في الإتقان، رغم أنه لم تكن لنا مدارس عليا للهندسة ولا وزارات خاصة بالمدينة ولا مجالس بلدية ولا أحزاب ولا جمعيات مختصة.. ولا هم يحزنون.

كانوا يشيدون بإتقان ودقة وفنون راقية وعبقرية فريدة، لذلك حين تدخل قصرا أو منزلا في أقصى منطقة في المغرب العميق تشعر بالاطمئنان والراحة.

دخلنا  مرة قصرا بمنطقة “الريصاني” في حر الصيف فشعرنا بنسيم هواء منعش يسري وسط الغرف والصالونات.. تدخله في الشتاء فتشعر بالدفء والحرارة الطبيعية وليس بحرارة السخانات الصينية القاتلة.. تشعر بنفس الشعور في بيوت فكيك وغيرها.. هنا يكمن الفارق بين عمران الماضي وعمران الحاضر.. بين الأصالة الحقيقية والمعاصرة المزيفة المهدودة.

ليوطي واحد من الأشخاص التاريخيين الذين شيدوا المغرب.. أنظروا إلى وسط مدينة الدار البيضاء والرباط وفاس وغيرها من المدن، وقارنوا بين ما  بني في عهد ليوطي وما جاء بعده.. قارنوا مثلا بين شارع محمد الخامس في الرباط وبين أكدال.. الحسن الثاني أنقذ الرباط بالحزام الأخضر.

كان ليوطي يشدد على وجود فنان تشكيلي في اللجنة العمرانية المشرفة بالمدينة.. أين هو رأي الفنان اليوم في ما يشيد عند الجماعات القروية والبلدية والولايات والعمالات.

اليوم سيد الوقف هو “مول الشكارة” والمضارب العقاري والسماسرة من كل الأصناف.. وليمض  جمال مدن المغرب إلى الجحيم.. من لا “كبدة” له على البلد لا إيمان له ولا دين له.

كان الفنان محمد القاسمي يقطن في زنقة  شيدها الفرنسيون في حي قدماء المغاربة الأنيق في تمارة.

كانت الزنقة متناسقة هادئة وجميلة، لكن ضيفا  ثقيلا سكن إلى الجوار وشرع يهدم ويأتي بالاسمنت ويقلب وجه الزنقة ووجه  الدار ويزرع البشاعة والقبح وقلة الذوق في المكان.

القاسمي بحسه الفني العميق نبه الجار إلى الفساد العمراني الذي شرع فيه لكنه أجابه بقلة ذوق دائما: الدار داري ندير فيها الّلي بغيت.

نبحث دائما عن أسباب الجريمة وغياب الأمن وسطوة العنف بين الناس وننسى أن من أكبر الأسباب هي المدينة نفسها.

المجال وعلاقته ببني آدم  قضية مركبة جدا ومترابطة.. هو زواج قابل لكل التأويلات.  علاقة البشر بالمجال مثل علاقة ما نشرب وما نرمي في بطوننا بأحوال العقل و الجسد.. إما أن يقتلك أو ينعشك.

عمارات إسبانيا وفرنسا لا زالت شامخة قوية جميلة منسجمة مع فضائها. فيما عمارات وبنايات المضاربين قبيحة هشة رغم أنها ولدت قبل أيام فقط.. مصيبة و الله العظيم..من فعلها؟ متى يحاكم مجرمو العمران مثلما يحاكم مجرمي الحرب؟؟

في طنجة سيزول نادي الفروسية، وارث سر بهاء المكان، وسيتحول إلى عمارات سكنية. زوال نادي “كورّيندا” في طنجة أشبه بنزع كبد من أحشاء شخص.. قتلوا الشجر من أجل الأسمنت.

 في الجانب الآخر من “واد ليهود” في نفس المنطقة الجميلة يشيد اليوم مركب تجاري سيبيع الملابس الصينية و”الهامبورغر” على أرض كانت فاصلة طبيعية غاية في الجمال بين الدرادب والمدينة من جهة و حي الجبل الكبير.

الجرائم مستمرة.. في سيدي بنور قطعوا أشجار الكاليبتوس التي غرستها فرنسا وتركوا المدينة قرعاء مثل أي قرعة دكالية.

 تقولون لنا تكاثرت الجريمة؟ في كل مدينة حكاية.. أبحثوا عن الفاعل.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version