استوقفني خبر صغير في أسفل الصفحة الرياضية، قبل بضعة أيام، يفيد بأن أولي هونيس، رئيس نادي باييرن ميونيخ الألماني، قد قدم استقالته من الرئاسة.

طبعا، لا يمكن أن يحدث هذا إلا في بلد متقدم مثل ألمانيا. أما عندنا هنا، في هذا البلد النامي، فالرئيس لا يستقيل، بل ولا يقيله من مهامه غير سيدنا عزرائيل، سواء كان رئيس ناد أو رئيس حزب سياسي أو رئيس نقابة عمالية أو رئيس جمعية حقوقية أو رئيس تعاونية سكنية أو…
ويضيف الخبر المذكور أن استقالة هونيس (62 سنة) جاءت بعدما قضت محكمة مدينة ميونيخ في حقه بثلاثة أعوام ونصف حبسا نافذا بسبب تهربه من دفع ضرائب قدرت بحوالي 27 مليون يورو.
ونتوقف هنا عند أمرين لافتين، أولهما أن الحكم لم يصدر عن محكمة دورتموند، مدينة الفريق المنافس للباييرن، وإنما عن محكمة ميونيخ التي لم تأخذ بعين الاعتبار أن الرجل من أشهر اللاعبين السابقين في فريق المدينة البافارية، متوج مع منتخب «المانشافت» بمونديال 1974، بل وهو الرئيس الذي تولى أمور الباييرن عام 2009 والنادي في حالة من التواضع ليحوله إلى أقوى فريق في العالم متقدما على الريال والبارصا ومانشيستر…
مسألة التهرب الضريبي ليست مطروحة عندنا لأن فرقنا ليست مطالبة بدفع الضرائب، فهي تجني مداخيل المباريات وتعويضات البث التلفزيوني ومردود الإشهار ومنح المجلس البلدي والإقليمي ومنحة الجهات الرسمية دون أن تكون ملزمة بكشف حساب. ومع ذلك، فعندما يضبط الأمن لاعبا مشاغبا في حالة سكر طافح وقد ارتكب حادثة سير، تتحرك الهواتف الثابتة والنقالة، وتتنوع التدخلات، ليتم إطلاق سراح اللاعب قبل الفجر.
والأمر الثاني الذي يستوقفنا أن هونيس لم يدَّع أن إدانته مؤامرة يقف وراءها منافسه نادي دورتموند، بل تقبل الحكم بروح رياضية، وعقد مؤتمرا صحافيا أعلن فيه أنه لن يستأنف الحكم وأنه يستقيل حفاظا على سمعة باييرن ميونيخ، وأنه سيجمع أغراضه ويركب سيارته إلى السجن الذي سبق أن نزل به صاحب كتاب «كفاحي»، المدعو أدولف هتلر.
تجدر الإشارة إلى أن التهرب الضريبي الذي قاد هونيس إلى السجن لم يكن من أجل منفعة شخصية أو رغبة في التوغل أكثر فأكثر في نعمة الثراء الفاحش، وإنما كان من أجل النادي البافاري.
لا شيء من كل ما تقدم يمكن أن يحدث في هذا البد الأمين، فالمتهربون من الضرائب عندنا -مثل مهربي الأموال إلى بنوك سويسرا خارج القانون ومثل ناهبي المال العام- لا يدخلون السجون وإنما يدخلون البرلمان، ومنهم من دخل الحكومة؛ وحتى في الحالات المعدودة التي يدانون فيها قضائيا فإنهم لا يدخلون السجن، إذ يكفيهم استئناف الحكم لتبدأ عمليات تأجيل الجلسة إلى جلسة مقبلة لا يكاد يحل موعدها حتى يتلوها تأجيل جديد.
نحن الدولة التي يصرح رئيس حكومتها، وهو رأس السلطة التنفيذية، بأنه يتوفر على لوائح مهربي الأموال -وهي بمليارات المليارات- ويهدد بكشف المهربين، لكن لا هو يتجاوز حدود التهديد ولا النيابة تأخذ كلامه على محمل الجد وتفتح المتابعة، فتعاقب المذنبين وتطالب باسترجاع أموالنا إن كان على حق أو توقفه عند حده إن تبين أنه مجرد مدع كي لا يستمر في الإساءة إلى سمعة البلد.
أشياء بسيطة تميز البلد المتقدم عن البلد النامي؛ لذلك تستطيع ألمانيا أن تظل على ما هي عليه من تطور، ونظل نحن على ما نحن عليه.. منطقة نائية في قارة نامية نارها حامية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version