في سنوات السبعينيات، غنت تلك المرأة العجيبة، الحاجة الحمداوية، أغنية جميلة عن سائقي السيارات المتهورين، وأصبحت عبارتها “حوْلي بكْرُونو سايكْ الرّونو” تعبيرا صادقا عن صنف من الناس ركبوا سيارات الرّونو، والتي كانت وقتها امتيازا اجتماعيا كبيرا، خصوصا سيارات “رونو 12″، أو “الإيردوز” كما اصطلح الناس على تسميتها.

في تلك الأيام البعيدة كان حصول مغربي على سيارة يشبه زيارة إلى القمر، والناس كانوا ينظرون إلى أصحاب السيارات وكأن القدر من عليهم بهبة لا يمكن أن يحصل عليها إلا الغارقون في النعيم، خصوصا وأن الناس كانوا يجدون صعوبة كبيرة في الحصول على لقمة عيش، فكيف بسيارة يجب أن تطعمها أكثر مما تطعم أبناءك.

اليوم، صار بإمكان شخص يكتري غرفة مشتركة مع الجيران في سطح عمارة أن يملك سيارة جديدة اشتراها بالكْريدي، وفي أحيان كثيرة يملأ خزان سيارته بالبنزين لكي يتحرش بالفتيات في الشارع العام بينما لا يؤدي ثمن الغرفة التي يكتريها. هكذا صارت السيارة أهم من الخبز في بلد صار الناس فيه يتوقون إلى امتلاك مظاهرة الأبهة الاجتماعية على حساب الضرورات الملحة.

هكذا صارت السيارة في المغرب مشكلة كبيرة وتحولت إلى سبب رئيسي لأمراض السكري والعلل المرتبطة بأمراض القلب والشرايين، ففي كل مكان صارت قطعان من “الحلاليف” السائبة تقود السيارات وكأنها تعبث في زريبتها الخاصة. وفي كل مكان هناك الآلاف من المراهقين الذين يلهون ويلعبون بسيارات جديدة وفارهة كأنهم أطفال في مدينة الملاهي، وهناك عشرات الآلاف من السائقين الذين لا يديرون المحرك في سياراتهم إلا وهم في أقصى درجات نشوة السكر أو التخدير، وهكذا تحولت شوارع البلاد إلى مستشفى كبير للأمراض العقلية.

هناك اليوم آلاف السائقين الذين يعتبرون أن الأضواء الحمراء موضوعة للزينة فقط، وهم لا يعترفون بها بالمرة، ولا مشكلة لديهم على الإطلاق في أداء مخالفة من ألف درهم، فمتعتهم في خرق الأضواء أكبر بكثير من أن يحدها قانون أو تلجمها غرامة.

هناك آلاف السائقين الذين لا يعترفون بالخطوط المتصلة التي تمنع التجاوز. إنهم مجانيين حقيقيون وبسببهم يذهب الآلاف من الناس إلى القبر كل عام. وإذا حسبنا أن عدد قتلى حوادث السير في المغرب سنويا هو أربعة آلاف قتيل، فإن المحزن هو انه من بين هؤلاء الضحايا يوجد عدد كبير من الذين يحترمون قوانين السير بحذافيرها، لكن “الحلّوف السّايب” الذي لا يعرف معنى لقوانين السير قتلهم وأرسلهم إلى القبر بينما ظل هو يعبث في طرقات المغرب، وليتها كانت حوادث السير تحصد فقط أرواح هذه “الحلاليف” المدمرة.

ما يجري اليوم في طرقات البلاد يصعب تصديقه إلى درجة أن الناس صاروا يرون أن نصب كاميرات في أضواء الإشارة هي أهم بكثير من التعديلات الدستورية ومن الانتخابات ومن نقل الجلسات البرلمانية في التلفزيون، لأنه لو تم فعلا نصب هذه الكاميرات في الآلاف من أضواء الإشارة فإن “الحلّوف” الجالس خلف المقود سيفكر ألف مرة قبل حرق الأضواء.

هناك مشكلة أخرى عويصة تبين درجة المرض الذي وصلناه كمجتمع. ففي الماضي كان السائقون يشتكون من كثرة الحفر في الطرقات، وعندما يتم إصلاح هذه الحفر يعمد الناس إلى وضع حواجز إسمنتية فوقها حتى يخفف السائقون سرعتهم. لماذا إذن يتم اعتماد ميزانيات ضخمة لإصلاح الطرق لكي تمارس عليها “الحلاليف” السائبة سباقات الرالي؟ كان من الأجدر أن تبقى محفرة مثل الخنادق.

في الطرقات أيضا سلوكات مشينة لا يمكن رؤيتها في بلد آخر من هذا الكوكب. سائقون يتجرعون الجعة وهم يسوقون، آخرون يدخنون ويرمون أعقاب سجائرهم على أول سيارة قربهم. أصحاب سيارات لا يفرقون بين طفل أو شيخ مريض أو المرأة حامل تعبر الطريق. سائقون يتسامحون في كل حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكنهم لا يتسامحون في شبر واحد من الطريق. شجارات دامية بالجملة لأن السائق الذي لا يحمل معه هراوة مجرد غر ساذج. شعب توقف به الزمن منذ وقت طويل وأصبح يسرع على الطرقات فقط.

حاليا صارت شوارع المغرب عبارة عن سيرك كبير يتنافس فيه الحمقى والمجانين، ولو عادت الحاجة الحمداوية إلى الغناء عن نفس الموضوع فمن الأكيد أنها ستعوض عبارة “حولي بكْرونو سايْك الرّونو” بعبارة “الحلّوف تالْف راكب الإكس فايْف”.

شاركها.

تعليقان

  1. السلام عليكم الأخ عبد الله
    أحترم رأيك و مقالات كلها في الصميم وأشجعها بالرغم من قسوتها
    المرجو تقديم النصح على شكل اقتراحات حلول عسى أن يأخذ بالفكرة لبيب
    شكرا
    المساري حفيظ

اترك تعليقاً

Exit mobile version