لا يعرف أحد إن كان الدكتاتور الإسباني السابق الجنرال فرانكو يؤمن ببركة الأولياء الصالحين. وهو في كل الأحوال كان كاثوليكيا متزمتا ويؤدي طقوسه بانتظام، لكن اللوحات الفنية التي كان يزين بها قصره في مدريد أو إقاماته الأخرى والتي رسمها بنفسه، ربما تشي إلى أنه كان على الأقل يؤمن بالبركة، على الطريقة المغربية طبعا، بعد أن عاش في هذا البلد سنوات طويلة وصعد على أكتاف سكانه إلى السلطة في إسبانيا. فمن بين ثلاث لوحات زيتية عرضت للبيع في مزاد علني كانت اثنتان منها لأضرحة مغربية يجلس حولها مغاربة بجلاليبهم التقليدية وهم يتبركون بجدرانها، وهي لوحات يمكن أن تعتبر غريبة بالنسبة لرجل سلطة حكم إسبانيا بيد من حديد لمدة تقارب الأربعين عاما. ويبدو أن ورثته لم يعودوا يؤمنون بالبركة المغربية مع أنهم ما يزالون يحتفظون في المغرب بالكثير من الأملاك والعقارات التي تدر عليهم الكثير من المال، فقرروا بيع لوحات فرانكو المغربية، وكل لوحة لم يقل ثمنها عن عشرة آلاف أورو.

نصفه مغربي

لكن آثار فرانسيسكو فرانكو التي أصبحت تنقرض لا تتجسد في لوحاته الزيتية المغربية فقط، بل أيضا في تماثيله التي كانت تملأ المدن والقرى الإسبانية، قبل أن يقرر الاشتراكيون هدمها.

فرانكو تولى حكم إسبانيا عقب انتهاء الحرب الأهلية سنة 1939

وفي مدينة تطوان عاش فرانكو لسنوات في بيت متواضع في المدينة العتيقة، وهو لم ينس يوما حياته المدينة في شمال المغرب، والذي قفز منه مباشرة على قمة هرم السلطة في إسبانيا.

الجنرال فرانسيسكو فرانكو الذي غيبه الموت قبل أربعين عاما لم يكن إسبانيا تماما. كان نصفه إسباني ونصفه مغربي. كان يعرف عامية سكان شمال المغرب لأنه عاش بينهم سنوات طويلة، بل وغنى معهم أغانيهم الشعبية وضرب على الدف في الليالي التي كان مزاجه فيها رائقا، كما أن صدور المغاربة الرحبة أوصلته إلى سدة الحكم في حرب أهلية طاحنة لأنها استقبلت الكثير من الرصاص بكثير من الشجاعة… والكثير من السذاجة أيضا، لأنهم اقتنعوا أنهم ذهبوا إلى إسبانيا لكي يحاربوا الكفار الشيوعيين، بينما لم يكونوا يعملون سوى على إيصال المتطرفين المسيحيين إلى السلطة، والذين سيثبتون عقودا بعد ذلك أنهم الأكثر عداء للمغرب، ومنهم خرج خوسي ماريا أثنار الذي كان يحلم كل ليلة بالعودة إلى احتلال المغرب.

مغاربة وأناجيل

أشياء قليلة جدا حدثت وتحدث في إسبانيا من دون أن يكون للمغرب أو المغاربة دخل فيها. ومنذ أن رفع ذلك القائد المغربي البربري الشهم طارق ابن زياد سيفه في السماء وهو يجر خلفه جنودا أغلبهم من البربر والعرب الأشداء ووصل إلى البر الإسباني، فإن إسبانيا صارت تتحرك ب”الريموت كونترول” المغربي، حتى لو لم يرد المغرب ذلك، وهكذا ظل المغاربة حاضرون دوما في تاريخ إسبانيا قديما وحديثا.

وكما فعل طارق بن زياد قبل قرون عندما سيطر على شبه الجزيرة الإيبيرية بجيش من شمال المغرب، فإن الجنرال فرانكو أخذ العبرة من التاريخ وأطاح بالجمهورية اليسارية بجيش من شمال المغرب جمعه بالقوة بدعوى “محاربة الشيوعيين الإسبان الكفرة”.

وهكذا عبر عشرات الآلاف من البربر والعرب المغاربة، وبينهم الآلاف من أحفاد الأندلسيين المطرودين من الأندلس بعد سقوط غرناطة، وفتح بهم المدينة تلو الأخرى، بينما كان الرهبان الكاثوليكيون يتقدمون جيش المغاربة وهم يحملون الأناجيل.

لا يثق في الإسبان

وحتى بعد وصول فرانكو إلى السلطة فإنه ظل لسنوات طويلة لا يثق في بني جلدته من الإسبان، وكان حرسه الخاص مكونا مائة في المائة من المغاربة، وهو ما كان يسمى بالحرس المغربي، أو “لاوارديا مورا” بالإسبانية.

توفي فرانكو سنة 1975.. وعادت الملكية إلى حكم إسبانيا

وفي الوقت الذي أوصل المغاربة فرانكو إلى دفة الحكم في إسبانيا وحموه من أعدائه لسنوات طوال، فإن إسبانيا ظلت محتفظة بشمال المغرب الذي صار منطقة شبه إسبانية، حتى أن فرانكو وعد سياسيين من شمال المغرب بدعم انفصالهم عن المغرب من أجل الالتحاق بإسبانيا، قبل أن يرتد عليهم في آخر لحظة، وهو المتعود دائما على اللعب على الحبال بمهارة فائقة.

مياه كثيرة مرت من تحت الجسر منذ ذلك التاريخ، وإسبانيا اليوم ليست هي إسبانيا الأمس، ومغرب اليوم يشبه كثيرا مغرب كل الحقب.

جزء من التاريخ

فرانكو اليوم صار جزءا من التاريخ، وآخر ما فعله ورثة فرانكو من صناديد اليمين هو أنهم أخرجوا إلى المزاد العلني ما بقي من التاريخ المغربي لفرانكو. لقد أخرجوا ثلاث لوحات زيتية رسمها فرانكو بنفسه أيام عيشه في المغرب وظل يزين بها قصره لعقود، وكأنهم يريدون أن يتخلصوا من كل العقد المغربية في تاريخ إسبانيا، أو ينسوا أنه لولا المغاربة لما وصل فرانكو يوما إلى حكم إسبانيا.

لقد عاش فرانكو طويلا في المغرب وعرف أن الأشياء تسير فيه بالبركة أكثر مما تسير بالتخطيط والدراسة. وهكذا زين الجنرال قصوره بلوحات الأولياء والأضرحة. لقد أدرك فرانكو أن الكثير من معاقل اليسار والشيوعيين الذين كانوا يحاربونه في إسبانيا خلال الحرب الأهلية الطاحنة سقطت عن طريق الرعب لأن المقاتلين المغاربة لم يطلقوا رصاصة واحدة تجاهها وكانوا يكتفون بترديد هتافات “اللهم صلّ عليك أرسول الله”. وعندما وصل الجنرال إلى السلطة لم يكن يثق في بني جلدته من الإسبان وجعل حراسه الخاصين من المغاربة، قبل أن يتخلص منهم شيئا فشيئا بعد أن أحكم قبضته على المخابرات وعلى كل شيء.

لقد وصل فرانكو إلى حكم إسبانيا عن طريق بركة المغاربة، وعلق في قصوره لوحات ترمز إليها، وبذلك لم يكن هناك في الماضي فرق بين ضفتي مضيق جبل طارق حيث كان المغرب وإسبانيا “يمشيان” بالبركة. لكن اليوم اختلفت الأمور، فإسبانيا صارت تمشي بالتخطيط والسياسة الحكيمة، بينما المغرب ما يزال يسير بالبركة… كما كان دائما.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version