اعلي بن أحمد بن الأمين الريسوني *

خسر المغرب والعالم الإسلامي صديقنا العزيز الأستاذ البحاثة محمد بن عزوز حكيم، رحمه الله، الذي انتقل إلى جوار ربه الكريم، حيث فاضت روحه الطاهرة وأسلمها إلى البارئ جل جلاله ليلة الأحد/الاثنين 4/5 ذو القعدة 1435 الموافق لـ31 غشت/فاتح شتنبر 2014، وذلك في حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل في مصحة الريف بمدينة تطوان.

عرفتُ الرجل عن كثب منذ 1971 إلى يوم رحيله، وكتب الله لي أن كنت آخر من رآه من أصدقائه على قيد الحياة، إذ زرته في الغرفة 25 بتلك المصحة قبيل موته ببضع ساعات، فقد عدته مساء يوم الأحد رفقة بعض أفراد أسرتي وبقيت جنب سريره حوالي نصف ساعة تقريبا، فدعونا له صادقين بتلاوة القرآن الكريم وبأدعية نبوية شريفة وبحزب للشيخ الولي الصالح سيدي محمد بن علي بن الحسين بن ريسون العلمي الحسني الإدريسي (المتوفى بالزاوية الريسونية بتازروت في 1189 هجرية)، وردَّدنا -أسرتي وأسرة الراحل- فقرات هذا الحزب الميمون وفيه “ثبتنا بقولها.. لا إله إلا الله”، فثبته الله بالقول الثابت، فكان الفيديو الذي سجَّل لقاءَ الوداع آخرَ تسجيل سمعي بصري لصديقنا الغالي وهو في اللحظات الأخيرة من عمره المديد الذي ناهز التسعين سنة.

في 1971، زارني الرجل في منزلنا بشفشاون باعتباره أقدم دار في المدينة، أي منزل المؤسس مولاي علي بن موسى بن راشد العلمي الإدريسي الحسني في الذكرى الـ500 لتأسيس شفشاون (1471 – 1971)، وكان هو قطب الرحى في هذه الاحتفالية بالمائوية الخامسة لبلدتنا المؤسَّسَة على الجهاد والجهاد وحده وتقوى الله وإقامة الدين.

ومنذ أواسط الأربعينيات والأستاذ يوالي العطاء العلمي بإنتاجه الغزير الذي لم يتوقف لحظة، سواء بالعربية أو باللسان الإسباني، فنشر ما يناهز 300 عنوان من الكتب التي ألفها باللغتين، وأما المقالات فتعد بالمئات، لأنه كان شعلة من النشاط الثقافي الذي صرف فيه أوقاته وجهده، مخلفا وراءه بذلك أرشيفا وثائقيا لا يقدر بثمن يضم فيضا غزيرا جدا من المستندات الغميسة والوثائق الأصلية التي لا توجد عند سواه، ومنها وثائق حساسة وذات طابع سري تتعلق بالدبلوماسية المغربية وعلاقات المغرب الدولية وسيادته على الأراضي المغتصبة في الحدود الحقة، وقد كان صرح لجريدة جهوية صادرة بتطوان بأن محتويات أرشيفه يمكن أن تصل إلى 8 ملايين وثيقة، ومازالت شهادته مسجلة بالصوت لدى هذه الدورية.

وتظهر موسوعيته من خلال المحاور التي ركز عليها في كتاباته المتوالية:

1 – عن الصحراء المغربية التي خصها بمصنفه السيادة المغربية على الصحراء من خلال الوثائق المخزنية؛

2 – مدينتا سبتة ومليلية؛

3 – مدينة شفشاون التي خصها بمجموعة من المطبوعات؛

4 – مدينة تطوان؛

5 – العائلات الأندلسية؛

6 – مأساة الموريسكيين؛

7 – الحروب الصليبية في الغرب الإسلامي؛

8 – مدينة أصيلا؛

9 – جهاد الشريف مولاي أحمد الريسوني المتوفى في 3 أبريل 1925 والذي خصه بمجموعة من التآليف، وكان يعتبره المقاوم الأول ضد الاستعمار الأجنبي، ورد غليه الاعتبار من خلال الوثيقة، والوثيقة وحدها؛

10 – معركة وادي المخازن؛

11 – الحركة الوطنية في الشمال؛

12 – تاريخ البطل محمد الخامس؛

13 – موقف الشمال من الاعتداء على العرش؛

-14  يوميات الأستاذ الطريس؛

15 – مجموعة من الأطاليس…

إلى محاور أخرى أدبية وتاريخية ولغوية واجتماعية.

وإلى الفقيد محمد بن عزوز حكيم يعود الفضل، بعد الله تعالى، في اعتماد ملف المغرب لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي في إثبات بيعة القبائل الصحراوية للعرش العلوي، بما قدمه من وثائق لما كان عضوا في وفد المغرب لدى هذه المحكمة.

لقد مات أول ترجمان بالإسبانية للملك محمد الخامس وترجمان الملك الحسن وعضو ديوانه الملكي ومستشاره في استرداد إيفني ومحطات هامة من تاريخ مغرب الاستقلال.

مات الرجل الذي تسلم الإدارات المغربية سنة 1956 من الحماية الإسبانية وأدمجها في البوتقة المغربية لما كان كاتبا عاما مع الزعيم المرحوم عبد الخالق الطريس في وزارته (الوزارة المكلفة بشمال المغرب)، إذ كان هو المباشر لعمليات التسليم بوصفه الإداري، في حين أن الأستاذ الطريس كان هو الوجه السياسي في هذه الوزارة التي تكلفت، بعد 7 أبريل 1956، بإدماج المصالح والوزارات والإدارات والمرافق العمومية بالشمال مع نظيرتها في الجنوب.

مات الصديق الحميم للأستاذ الطريس الذي رافقه قبل الاستقلال في وزارة الشؤون الاجتماعية بتطوان وبعد الاستقلال في وزارة الإدماج وفي أول سفارة مغربية بإسبانيا، حيث كان قد أجرى تفاوضا مع الجنرال مونيوس كرانديس، خليفة فرانكو، في مسألة استرداد سبتة لولا أن وزير الخارجية آنذاك الحاج أحمد بلافريج رفض فتح ملف التفاوض حول سبتة متعللا بانشغالات المغرب في جبهات أخرى، وهذا عندنا مسجل من المرحوم الراحل.

أما عن التكريم، فقد كـُرِّم الرجل أكثر من مرة من طرف فعاليات ثقافية، وكان آخر التكريمات له نظم بمدينة شفشاون قبل شهور، حيث سهرنا عليه بحضور أسماء وازنة من محبيه (أبو بكر بنونة، عبد العزيز السعود، رضوان احدادو، رشيد مصطفى… وغيرهم)، وعلى ذكر صديقه بنونة ننوه أنه نشر عن أبيه الحاج عبد السلام بنونة أربع مجلدات هامة.

وكان آخر نشاط علني له حضوره الشخصي في جبل العلم بمولاي عبد السلام بن مشيش يوم السبت 23 شعبان 1435 الموافق الـ21 يونيو 2014 في موسم الدعاء لأمير المؤمنين.

كما ننوه ببراعته العلمية الكبيرة في الترجمة التحريرية من الإسبانية وإليها، ويكفي أنه ترجم أو كان على وشك أن يترجم موسوعة TOMAS GARCIA FIGUIRAS وهيMULAY AHMED RAISUNI GRAN FIGURA DEL MARRUECOS CON TEMPORANO (مولاي أحمد الريسوني أعظم شخصية في المغرب المعاصر ـ في ما يناهز 1600 صفحة).

لقد كان يحب بلده المغرب حبا جما، وتفانى في هذا الحب، وخصوصا حب المنطقة الشمالية، كما أحب بإخلاص كبير العرش العلوي الذي خدمه من خلال ما كتبه من مصنفات وأبحاث، حيث كانت له غيرة كبيرة على إمارة المؤمنين، هذه الإمارة التي خصها في كتاب خاص مستقل كنت شخصيا وراء تأليفه له، إذ حثـَثـْتـُه وحضَضْتـُه باستمرار على إنجاز هذا العمل الرائع الذي أخرجه مطبوعا في حلة قشيبة؛ كما أحب وطنه الإسلامي من خلال نبشه في مؤامرات الاستعمار وصكوك الباباوات الذين فضحهم بنبشه في إذكائهم حروب الاستعمار في الغرب الإسلامي، ابتداء من سقوط سبتة سنة 1415، وكنا معه على وفاق تام في الدفاع عن ثوابتنا الدينية والوطنية واتفقنا في هذا الصدد على إخراج مؤسسة تحمل اسم (محمد بن عزوز حكيم) لتضم شتات مطبوعاته ووثائقه التي لا تكتسي صبغة السرية، حيث كانت المحبة المتواصلة بيننا منذ 43 سنة لا تترك شيئا في طي الكتمان بيننا وبين هذا المسافر الذي ودعناه الوداع الأخير على أن نلتقي به في الجنة إن شاء الله.

أما الشأن الأندلسي فهو فارس ميدانه وحامل لوائه، ورافقنا في جميع المحطات التي اجتزناها في هذا المضمار، وكان بجانبنا في شفشاون على رأس الموقعين على عريضة المطالبة بإدخال العنصر الأندلسي في الدستور المغربي سنة 2011.

وفي الشأن الموريسكي، له أعمال مشهودة كما في التأريخ للشمال والحركة الوطنية دون إغفال إسهامه في معلمة المغرب وانفراده بمعلمة تطوان.

فعزاءً في فقدان أحد أفذاذ عمالقة المؤرخين المغاربة، بل نقول إنه شيخ المؤرخين المغاربة ذوي الثقافة المزدوجة.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 * رئيس مؤسسة آل البيت للشريف مولاي أحمد الريسوني 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version