المتأمل في أحوال المهاجرين المغاربة والصيف يكتشف مفهوما فلسفيا اسمه “ريح البلاد” أو “ريحة البلاد”.
انتهى زمن الصيف، وعاد المهاجرون “الزماكرية” أو “الناس دْالخاريج” كما يقول أهل الشمال، إلى عقر دارهم الأوروبية الباردة. الكل يأتي كل صيف، تقريبا، من أجل هذه “الريحة” أو “الريح”، كما يحلو للبعض أن يسميه، وهناك من يستنشق فعلا، وبعمق، هذا الريح، بما فيه حتى ريح الشرقي العاصف في طنجة ويعتبره أساسيا لنفسيته ولرئتيه.
التفكير الملي في مفهوم هذه الرائحة يلزمه تحليل سوسيولوجي نفسي دقيق، هل فعلا للوطن رائحة خاصة؟ الذين يقولون برائحة البلد أكيد يعنون تلك الرائحة المنتشرة فعلا في الوطن الأم كما أخمن، وهي خليط من النكهات التي تزكم النفس، خاصة في الصيف.. الفصل الملاذ لأبناء جاليتنا المقيمة بالخارج.
الرائحة تبدأ برائحة الأكل من البيت بتوابل الطاجين والحريرة والسفنج، وتتبعك الرائحة إلى السوق بروائحه المتبلة بكل ما لذ وطاب من الحلوى المغربية وزيت قلي السفنج والنعناع والقسبور والكرافس.
البحث والسعي وراء رائحة البلد فيه ما فيه. هناك في أوروبا لا رائحة لهم في المساكن والأسواق، أو هي مختلفة تماما لا تسكنها ذكريات خبز الوالدة في الفرن أو رائحة “الكالينتي” أو الزريعة أو الببوش (الغُولال) وغيرها.
في منازل أوربا وعماراتها لا رائحة تعلو ولا دخان. ومرة قررت أن أكون حاذقة وأُحضّر صباحا باكرا رغائف لزوجي المغترب في قلب هولندا، وكانت الكمية كثيرة. سخّنت المقلاة وأطلقت دخانا فانطلق جهاز الإنذار ونهض زوجي قلقا مرعوبا.. كنت فقط أريد رائحة البلد ذاك الصباح.
العمارات في أوربا بلا رائحة سوى روائح النظافة المفرطة أحيانا.. لذا ترى العائدين من سفريات المغرب يحملون روائح البلد ولا أحد سيجادل في محتويات الحقائب فهي خليط عجيب من روائح زيت الزيتون والرغايف والحلوى والمانتا والنعناع والحناء، أما إذا كانت الحقائب برا على متن السيارات فاصف إليها البطيخ الأصفر والهندية والكرموس.. والكل ينطق بلغة واحدة “كل شي موجود في أوربا لكن بلا مذاق”.
حين يأتي المهاجرون صيفا إلى المغرب يتحولون إلى شعب عجيب يهيم في الشوارع ويسبح في البحر ويستمتع بشمس البلد.. والسباحة فيها وفيها أيضا، فبعض المهاجرين اتخذوا شواطئ نائية وخالية مربطا لاستجمامهم بجلاليبهم الفضفاضة وسراويلهم هم يمارسون متعة البحر.. كما يقول شرع الله، بعيدا عن أعين المتلصصين وبدون عري أو خزي كما الشأن في الغرب، فالسباحة في أوروبا لها طقوس في اللباس والاستجمام، والمهاجرون ليسوا نصارى ليفعلوا مثلهم، إنهم حائرون يأكلون ويشربون ويحكمون أولادهم بطريقتهم، يريدون أبناء صالحين يمشون على السراط المستقيم ولا يتشبهون بالنصارى ولا يتأثرون بحياتهم وروائحهم، لكن واقع أبناء الهجرة مختلف، فهم يريدون الانطلاق والحرية والمشي شبه عراة تحت أشعة شمس البلد الدافئة وإطلاق عنان “الجيتسكي” في البحر وسياقة السيارات في البر على إيقاع “الشعبي والراي”.. “قولي لي يا الزرقة والغربة صعيبة”.. وهلم جرا.
شعب الشباب المهاجر في الصيف شعب مختلف شبه ضائع يتوق لرائحة البلد بطريقة أخرى، شعب ينشد الحرية والتحرر من قيود مجتمع محافظ.. إنه جيل جديد مسكين وتائه.. يريد اليوم رائحة الشيشة حتى على شط البحر.. لا تقنعه مذاقات الأعشاب والتوابل في السوق والبيت.
روائح الشباب في البلد خمر على حشيش على شيشة.. إنها خلطة يعيشونها بنزق وحرية تحت أشعة “الكونجي” في المغرب، هي متعة خاصة بهم ترفعهم لدنيا أخرى أحلى لينسوا ذاك التمزق الرهيب الذي يجتاحهم في الما بين بين هنا ولهيه .. زمن المهاجرين الصيفي يدعو لدراسة مستفيضة تضيء واقعا عجيبا على شط البحر والنهر والبرك والعيون المائية في كل مناطق المغرب..هم أبناء المغرب المغتربون هنا وهناك يقتطعون لحظات السعادة في الصيف بنكهة الاقتران والاقتراب أكثر من البلد. فهل يقتربون فعلا أم يزدادون غربة في بلدهم الأم..؟!!
سميرة مغداد، مديرة مكتب مجلة “سيدتي” في المغرب