من الضروري أن نقف عند فترة مهمة من تاريخ المغرب، هي تلك الفترة التي كانت فيها الأندلس، وهي في عز مجدها، قوة دفع؛ بل حتى حينما قلب لها الدهر ظهر المِجَن، كما يقال، ظل بريقها، ثقافيا، متوهجا. أثّر المغاربة في الأندلس سياسيا وبشريا، ولكنهم تأثروا بها ثقافيا. تحللت اللغة العربية في الأندلس من الدين، لتصبح مستقلة عنه، كتب بها المسيحي، وإن ضاع منا نتاجه، وكتب بها اليهودي، ومنها كتاب “دليل الحائرين” لابن ميمون. عبّر بها أهل الأندلس عن شؤونهم بل ومجونهم. وكان من نتائج هذا التنوع بين الأديان، وبين استعمالاتها المتعددة، أن اصطبغت بشيء نجد له نظيرا إبان العصر الذهبي مع العباسيين، هو ارتكانها للعقل. أضحى العقل هو القاسم المشترك، وليس العقيدة. كتابات ابن باجة، وابن طفيل وابن رشد، وحتى ابن حزم، يغلب عليها المنحى العقلاني. لا يتوراى الجانب الروحي، ولكنه يتعايش مع العقل. يدفع العقلُ الدينَ إلى التواري ويفرض عليه التعايش وينزعه من سؤدده، كما لدى ابن رشد وابن ميمون. هذا المنحى هو ما أفضى إلى ما أسمته الكاتبة الأمريكية روزا ماريا ميوناكال Menochal بزهرة الدنيا وبهجتها The ornement of the world، أي تعايش الأديان والأقوام، أو ما يعبر عنه الإسبان بكلمة Convivencia قبل فلسفة الأنوار. انتـُزعت اللغة من إسار الدين لتصبح مرتبطة بالحياة، ولذلك انفصلت عن قوالب اللغة العربية وتناءت عن قواعدها، نحوها وصرفها واشتقاقها في ما يعرف بـ”الموشحات”، واستمر هذا التطور إلى أن تضاءل ارتباطها بالعربية وذوى، واقتصر على الرسم في ما يعرف بـ”الخيميادو”، وهو تحريف لكلمة الأعجمية.. هي سابقة تظهر أن التساهل مع القواعد يفضي إلى شيء جديد.

وإذ سقطت الأندلس انكفأ المغاربة على أنفسهم. شكّل ذلك جرحا وجوديا ظلوا يحملونه لقرون ولربما مايزالون. في هذه الفترة، نشطت الزوايا واضطلعت بأدوار عدة، ومنها الحفاظ على لغة القرآن. حفظ المغاربة متونها، يرددونها، ولو عن غير فهم، ويعرفون قواعد اللغة كما لو هي غاية، وقد يعسر عليهم الحديث بها. يورد عبد الله العروي في كتابه “جذور الوطنية في المغرب” كيف أن مغاربة، وهم في مسيرهم إلى الحج، عجبوا من أن يوجد بمصر من يتكلم اللغة العربية سهوا ورهوا. قامت منارات علمية للحفاظ على جذوة الحضارة الإسلامية، بالزيتونة وبالقيروان. لم يكن علما متجددا. ومن اللافت أن نذكر أن قد نهضت بالبوادي مراكز علمية، بتامكرونت وتافيلالت وجبل العياشي وسوس وفيكيك وتوات ومعسكر وتوزر وفزان ومحضرات شنقيط وتين بوكتو، مراكز قد تبزّ الحواضر العلمية في القيروان وابن يوسف والزيتونة، أو على الأقل تضاهيها. يمتزج الحديث غالبا في هذه الأطراف بلغة الحياة، الأمازيغية، ويؤول مع الغريب إلى اللغة العربية. لا تفقه ساكنة هذه الأرجاء الدارجة، وإذ يتكلم أصحابها العربية يتوجسون خيفة من أن يكونوا ثلموا حرمتها، وهي حالات وقفت عليها في سوس، وفي أرجاء بلدتي، بتروك، وبزاوية سيد حمزة.

حينما ألقى الاستعمار بجرانه في بلاد المغرب امتزج الدفاع عن الأرض والعِرض، بالعقيدة وباللغة العربية. جعلت جمعية علماء المسلمين في الجزائر وكدها تجديد الدين والنهوض باللغة العربية، فيما انتصب له رئيسها عبد الحميد بن باديس في البصائر، والبشير الإبراهيمي في الشهاب، وفي ما عبر عنه عبد الحميد بن باديس ردا على نزوع فرنسا فرنسه الجزائر في شطر هذا البيت:

“شعب الجزائر مسلمٌ، وإلى العروبة ينتسب”.

آصرة الإسلام هي الأقوى، أما العروبة فهي انتساب. فعل أهل المغرب الأقصى ذات الشيء وارتبط تجديد الدين كما عند محمد بلعربي العلوي بالنهوض باللغة العربية، وقد درّس بالقرويين أمهات الكتب، “الحماسة” لأبي تمام و”الكامل” للمبرد؛ بل بلغ عشق اللغة العربية لواحد من أبناء سوس، وهو في المنفى بقريته إلْغ ن إداو أو كادير، المختار السوسي، أن شطح به الخيال، فتصور طه حسين وقد طرق بابه فيلجّان كليهما في حديث ممتع طريف، ثم يذهبان، وكأنهما ابن قارح المعري، في رسالة الغفران يطوفان أرجاء تهامة ونجد والحجاز. وأما ابن بلة، أول رئيس للجزائر المستقلة، فلم يجد ضيرا في أن يجهر في رحاب جامعة الدول العربية، وقد استقلت الجزائر، “أنا عربي، أنا عربي، أنا عربي..” باللغة الفرنسية. في ثمانينيات القرن الماضي، جعل الملك الحسن الثاني لغة الضاد من المقدسات.

يُستحسن أن نعرف ذلك، ولست أدري يقينا إن كان سيسعفنا في التصدي لواقعنا وفك أحابيله وصوغ تصورات تفيدنا في فهمه وفي تجاوز معضلاته، لأن الناس أبناء زمانهم كما يقول المؤرخ مارك بلوك، قبل أن يكونوا أبناء آبائهم وأمهاتهم.

وضع اللغة العربية كلغة عالمية سابقا، فريد، فهي رغم أنها لم تعد تضطلع بهذا الدور، ماتزال قائمة، وهي بذلك تختلف عن اللاتينية، التي ذوت ولم تعد تسكن إلا المعاجم. تشرئب إلى هذا الدور، ولكن ليست لها قوة علمية تعتمد عليها كما في السالف، وليس لها كيان سياسي قوي يَدْعمها، ولا قوة اقتصادية تستند إليها. نعم، لها مكانة خاصة في دائرة الإسلام، وهو في جانب كبير سبب صمودها، ولكن هذه المكانة أصبحت مهددة من قِبل أقوام يغارون على لغاتهم القومية، ولم يعد الدين لحمتهم، ويعملون على الارتقاء بلغاتهم، ويقتحمون عالم العلوم، كما لدى الفرس والأتراك، وإلى حد ما المتخاطبون بالأوردو. التجربة القومية عند العرب لم تفض إلى نجاحات سياسية. تمخضت عن هزائم، وأفضت إلى مظالم، وأثّرت هذه الهزائم في الشعور القومي، وتولدت عن المظالم ردود فعل مشروعة في الغالب. كان العرب لفترة يرتبطون بمشروع، ولم يعد لهم مشرع. كان العرب يأتمّون بمنظومة أخلاق، وطوّح التمدين السريع بمنظومتهم الأخلاقية، أو المروءة، كما صور ذلك عبد الرحمن منيف في مدن الملح. كانوا إذ يغضبون يخرجون وهم يستشهدون بالمتنبي “عش عزيزا أو مت وأنت كريم”، وكان برجهم الذي به يفخرون، وأضحت لهم اليوم أبراج ولكنها من زجاج. لم يعد لهم شيء من أنفتهم ومروءتهم، ولذلك أنحى عليهم واحد من بني جلدتهم باللائمة في صيغة لا تخلو من فجاجة، عبد الله القصيمي، فنعتهم بالظاهرة الصوتية. من أعراض هذا الاندحار جهل العرب بلغتهم.. العرب الأقحاح لا يحسنون لغتهم، يكتفون منها بالأصوات وبالتعبير عن الحاجات الضرورية للحياة، يحسبون أن معرفتهم للغة التخاطب يفتح لهم منادح اللغة وأسرارها ويتيح لهم أن يبدعوا بها وأن يفكروا بها. تواتر الهزائم تحول إلى جلد الذات، وإلى احتقار للغة العربية. تظل فئة قليلة ممن تحسن العربية تمشي على استحياء كأنما بها ظنة.

بموازاة هذا الشعور نهض إحساس آخر من لدن اتجاهات تقدمية، نحا نحو الترجمة. لا جدال في أن حضارة ما حينما تضمر تضطر إلى تجديد رونقها وبعث الحياة فيها من خلال الاستفادة من الآخر، أو ما عبر عنه ابن خلدون بنزوع المغلوب إلى الاقتداء بغالبه. فعل المسلمون ذلك في ضحى الإسلام، من خلال ما اضطلع به “بيت الحكمة” من ترجمة، وفعل الغربيون ذلك في ما قامت به مدرسة طليطلة، ولم يشذ العرب عن ذلك مع ما سمي بالنهضة، فعلوا ذلك من خلال نقل للمعاني وصياغة للمصطلح حينما لا يوجد، ونحت له من مادة اللغة العربية، يعود الفضل في ذلك إلى رفاعة الطهطاوي وما قام به في مجلة “الحوادث المصرية”. من يقرأ كتاب “روح الجماعات” (أو نفسية الجماهير) لكوستاف لبون في ترجمة سعد زغلول لا يجد نشازا، كما لو هو يكرع من معين عربي. ولكن الترجمة أضحت شيئا آخر.. أضحت نقلا يكاد يكون حرفيا، بل أضحت الكتابة التقدمية هي إجهاز على عبقرية اللغة العربية. إجهاز على قواعد صرفها واشتقاقها وتركيبها، حتى إنه ليعسر فهمها. وهي الظاهرة التي سماها المرحوم عبد السلام ياسين بالعربوفونية، عربية الرسم، والأصوات، وعجمية التركيب.

يمكن أن نرصد تموجات حلم العرب وانكسارهم عند من هو صناجتهم، ويتسنم ذروة السؤدد في عالم الشعر العربي الحديث إلى جانب أحمد شوقي وبدر شاكر السياب، محمود درويش. يفخر بعروبته وهو في مقتبل العمر وصلابة عود القومية، فيجأر “سجّل أنا عربي”، ثم يعتريه الانكسار وقد سقطت بيروت، وسقط معها القناع في واحد من عيون الشعر العربي مديح الظل العالي. غضبٌ، ونفور. يقول:

ذهب الذين تحبهم، ذهبوا

فإما أن تكون

أو لا تكون

سقط القناع عن القناع عن القناع

سقط القناعُ

ولا أحدْ

إلاّك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان،

فاجعل كلَّ متراس بلدْ

لا.. لا أحد

سقط القناعُ

عرب أطاعوا رومهم

عرب وباعوا روحهم

عرب وضاعوا.

قبل الرحيل وقد رأى الحمام رأي العين، لم يعد يرتبط بشيء سوى لغته. ينشد أو يوصي في ديوان الجدارية:

نَسِيت الكلام

أخاف على لغتي

فاتركوا كل شيء على حاله

وأعيدوا الحياة إلى لغتي.

إن مت انتبهت

لدي ما يكفي من الماضي

وينقصني غد..

(نص الكلمة التي ألقاها السيد حسن أوريد في الندوة التي نظمها الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، يوم 19 دجنبر 2014)

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version