غرفة فرجينيا وولف الشهيرة، التي ترسّخت في الأذهان، كمثال صارخ لحاجات المرأة الكاتبة، ودرس بليغ في فيزياء التّوازي الكوني بين ما يوفّره المجتمع للكاتب الرجل، ونظرته القاصرة للمرأة الكاتبة، التي لا يمكن أن تصل إليه في أقصى حالات إبداعها، لأنها حسب فيرجينيا لا تتوفّر على غرفة خاصة. فهل قصدت، الغرفة بالمعنى المحسوس، أو المجازي؟

إذا كان الأوّل، فأجدني أخالف فرجينيا حين قالت لا بد أن تكون للمرأة غرفتها التي لا شريك لها فيها، إن هي أرادت أن تكتب الأدب. فحين خصّصت لنفسي غرفة خاصة للكتابة والقراءة في بيتي، لم أقرأ فيها ولو لمرة واحدة، فما بالك أن أكتب. ربما يرجع ذلك لأني شعرت أن الغرفة تضيق عليّ وتخنق روح الكتابة المتمرّدة على الطقوس والأمكنة، تعزلني عن العالم الذي أريد أن أكتب عنه. وشتّان بين الكاتب الذي يكتب عن العالم من عمقه، بأصواته وألوانه وروائحه. وبين من حبس نفسه في غرفته مترفّعًا عن الواقع، عن الآخر، يكتب من منطلق يتمحور حوله، هو المركز والبوتقة التي تنطلق منها كلّ الحكايات.

وربما تمثّل الغرفة إجبارية الكتابة، فتصبح طقسًا معيّن يفرضه المكان، ولا تعود عملًا اختياريًا يطيع مزاج الكتاب، ، كالصلاّة فنحن حين ندخل المسجد نفعل ذلك بنيّة الصلاة، فلا يمكنك أن تتواجد في المسجد ولا تصلّي، طبيعة المكان تفرض طقوسه، حتى لو لم تكن تشعر بروحانيته، فهي تحلّ عليك من تلقاء نفسها بمجرد أن ترفع يديك بالتّكبير على عكس الكتابة التي تختمر على مهل في ذهن الكاتب حتى تأتي الفكرة فجأة في أي مكان أو زمان، كولادة مفاجئة، وعلى الكاتب أن يخضع لإرادتها.

الكتابة أقرب منها إلى فعل شيطاني منها لعمل روحاني، حيث تخضع للهوى والمزاج والإلهام الذي يكون مصدره الشّيطان كما درج العرب على تسمية الملهم بشيطان الشعر، لم يعمدوا إلى تسميته ملاك الشعر، بل اختاروا الشيطان حتى ينزعوا القدسية عن الأدب، الذي ليس صلاة  أو تنسّك صوفي يرقى بصاحبه إلى أقصى درجات السّمو الروحي. فالأدب الابن الضال للكتاب، يتجوّل في الأمكنة المقدسة والمدنسة.  قد يصل إلى أقصى درجات الصّوفية والتماهي مع الذات الإلهية، وقد ينزل إلى أحطّ منازل الرذيلة والصعلكة والإباحية والشّيطنة، قد يكون كلّ شيء نراه في الحياة، تمامًا مثلنا، يتبع الذّات الإنسانية في كل حالاتها دون تمييز أو ترفّع.

ربما لم تقصد فيرجينيا الغرفة بالمعنى الحرفي، لعلها في الغالب قصدت بها استقلالية المرأة، ووجودها الفعلي خارج إطار مؤسسة الأسرة كيف ما كان دورها فيها، حيث  أسبقتها بنقودها، بمعنى أن تمتلك زمام أمرها وتشعر بالحرّية الكافية للتعبير عن ما تريد قوله،  ولا تبقى طائرًا حبيسًا يغرد عن خيال الحّرية الغالية الذي يراود أحلام اليقظة المزمنة. كما ذهبت إلى ذلك القاصة المغربية لطيفة باقا، في مجموعتها المعنونة  “غرفة فيرجينيا وولف”، في القصة التي تحمل نفس الاسم، تقول على لسان بطلتها  ” ليتّجه كل منّا بعد ذلك إلى غرفته.. إلى كسل القيلولة..(سأكون في هذه اللحظة قد حققت بالتأكيد ولو متأخرة، مطلبا صغيرا انشغلت عنه من فرط ذوباني في حياة أبنائي وزوجي والآخرين، ذلك المطلب الذي يلتقي ربّما بمطلب فيرجينيا وولف الشهير في امتلاك غرفة خاصّة)”.

وتبقى غرفة فيرجينيا وولف مثال صارخ على وضعية المرأة الكاتبة، التي تفتقد ترف العزلة التي قد يحتاج إليها الكاتب أحياناً للتخلص من ضجيج العالم وترتيب أدراج عقله، التي تشبه أدراج العازب، نصف مفتوحة، تطل منها بناطيله وقمصانه وجواربه، متمردة على قانون الأشياء، معلنة انتصار الفوضى على النظام الذي يصيب العقل بالصّدأ. ومكانا ينزوي فيه بعيدا عن الواجبات التي تثقل كاهلها، فالبيت للمرأة ليس استراحة محارب كما هو للرّجل بل ساحة معركة تعود إليها بعد يوم طويل في العمل، لتجد في انتظارها عملًا آخر، عمل يمتص آخر نفس فيها، فتصبح الكتابة ترفا ورفاهية لا تستطيع تحمل تكلفتها، ما دام كل ما تفكر فيه هو أن تغمض عينيها و تلقي بجسدها المنهك على السّرير، والنّوم إلى أن تشرق الشّمس على يوم آخر، بنفس الرّوتين ونفس الإرهاق.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version