ليست هذه المذكرات من أجل الإثارة، بل للعبرة، وفيها دروس كثيرة، سواء للمسؤولين الذين همشوا منطقة الشمال وجعلوها مجرد بقرة حلوب، أو بالنسبة للذين دخلوا مغامرة تهريب الحشيش معتقدين أن ذلك هو الخلاص، بينما هي مصيدة حقيقية.
هذا الحوار مع مهرب سابق، تخلى اليوم نهائيا عن تلك “المهنة” بعدما عانى من أهوالها الكثير.
هو اليوم يتأمل ماضيه وذكرياته ويوجه نصيحة للآخرين مفادها أن الحشيش لا يستفيد منه سوى الكبار، وحتى أولئك الكبار لا يفلتون من المقصلة عندما تقتضي الظروف ذلك.
الحلقة 3:
ألا تحدث لكم مشاكل أمنية خلال العودة من إسبانيا نحو المغرب بعد انتهاء مهمتكم في تهريب الحشيش؟
إطلاقا، لأن الأمن الإسباني لا يسأل عن جوازات العائدين إلى المغرب، كما أننا ندخل سبتة، وبعد ذلك لا نتوجه للنقطة الحدودية، بل نحو الطريق التي تؤدي مباشرة إلى قرية بلونيش.
في تلك الرحلة الأولى حدثت لي واقعة طريفة، وهي أن الإسباني الذي تكفل بعودتنا، اقتطع لنا تذكرة مشتركة أنا ورفيقي في الرحلة. وعندما دخلنا ميناء الجزيرة الخضراء في انتظار الباخرة، قال لي رفيقي، وهو له تجارب سابقة في التهريب، إنه سيصعد للطابق العلوي للميناء ليرى هل وصلت الباخرة، وطلب مني انتظاره، لكنه لم يعد وسافر لوحده بتذكرتنا المشتركة، ربما لأنه كان خائفا أو أنه لم يكن راضيا عن الإنجاز الذي حقته في تجربتي الأولى. إنها الغيرة في مجال التهريب.
بعد ذلك اقتطعت لنفسي تذكرة أخرى بحوالي 150 درهما. ولحسن الحظ أنه كانت عندي حوالي 600 درهما، بالعملة الإسبانية، لأن الإسبان الذين توصلوا بالحشيش منحونا مصروف جيب عبارة عن 10 آلاف بيسيطا، (العملة الإسبانية في ذلك الوقت). والغريب أني علمت فيما بعد أن الشخص الذي كان معي في الرحلة قبض عليه الحرس المدني الإسباني في سبتة، واضطر الباطرون للتدخل لإطلاق سراحه.
عندما عدت إلى المغرب بعد أن قمت للتو بأول عملية تهريب حشيش في حياتك، وأنت وقتها في السابعة عشرة من العمر، ألم تحس أنك أصبحت رجلا ناضجا وعندك مال وتستطيع أن تفخر بين أقرانك بأنك مهرب من الطراز الأول؟
طبعا، كان شعورا لا يوصف وقتها، وأكثر ما زاد من فخري هو أن كثيرين راهنوا على فشلي لأني صغير السن.
ومباشرة بعد عودتي من إسبانيا، ذهبت إلى منزل الباطرون في منطقة القصر الصغير. في ذلك الوقت كان لديه منزل هناك ومنزل في طنجة. اليوم له أملاك لا تعد ولا تحصى، ومعمل وعمارات وأشياء كثيرة أخرى.
التقيت الباطرون وكان رفقة أحد العاملين معه. هنأني على العملية وقال لي إني محظوظ بنجاح عمليتي الأولى وأنا في السابعة عشرة من عمري. أخبرته بحكاية رفيقي الذي هرب وتركني في إسبانيا، فوعدني بالتقصي في الأمر.
بعد ذلك توجهنا إلى شاطئ “مارينا سمير” في ضواحي تطوان، كنوع من الاحتفال بنجاح العملية. لم أر هذه المنطقة من قبل لأنها كانت خاصة بالأغنياء فقط.
بعد الجلسة، فاجأني الباطرون بطلب لم أكن أتوقعه، وهو أن أقوم برحلة تهريب ثانية في مساء اليوم نفسه. اندهشت لذلك، لكني وافقت في الحين.
كانت الرحلة الثانية مشابهة للأولى في كل شيء تقريبا، والفرق هو أننا حملنا ضعف كمية الحشيش، ففي الرحلة السابقة حملنا 90 كيلوغراما، وفي الثانية حملنا 180.
جاء أشخاص بحزم الحشيش، ووضعوها في نفس الباطيرا التي خضنا بها الرحلة السابقة، ثم وضعنا المحرك. كنا أربعة أشخاص، الرّايْس وأنا وشخصان آخران مع 6 حزمات من الحشيش، وكل شحنة بها 30 كيلوغراما.
الذين كانوا يحملون الحشيش من الغابة إلى الباطيرا كم كانوا يأخذون للواحد؟
كانوا يأخذون 500 درهم. لكن هذا المبلغ انخفض كثيرا بعد ذلك بسبب كثرة العرض، حيث صار كثيرون يعرضون خدماتهم في هذا المجال، فوصل السعر إلى 200 درهما أو أقل.
في الرحلة الثانية وصلتم سريعا إلى شواطئ طريفة؟
لا، لقد تأخرنا قليلا لأن البحر كان هائجا جدا، ولأننا انطلقنا أيضا متأخرين. وصلنا إلى نفس المكان، وهو الخندق، في الساعات الأولى للصباح، لذلك اضطررنا لإخفاء الحشيش بين الأحراش وقضاء اليوم مختبئين في انتظار الليل. التكتيك يقتضي أن نخبئ الحشيش في أماكن متفرقة حتى إذا حدث طارئ ما فلن يتم ضبطها كلها في مكان واحد.
قضينا اليوم في ذلك المكان المعزول لأننا حملنا معنا بعض الأكل، مثل التمر والتفاح وعلب التون والخبز. وعندما حل الظلام بدأنا المسير. كان كل واحد منا يحمل شحنتي حشيش بالتناوب، لقد أمضينا على ذلك الشكل ليلتين، حتى وصلنا بها إلى المكان المعلوم، فوجدنا نفس الأشخاص الذين انتظرونا في المرة السابقة في نفس السيارة. لكن كلمة السر هذه المرة لم تكن علبة كوكاكولا، بل بصلة، لذلك عندما سلمنا ذلك الإسباني بصلة قمنا بدورنا بتسليمه شحنة الحشيش، لكن العملية تمت على فترتين، لأننا لم نستطع حمل الحشيش كله دفعة واحدة، فحملنا الشحنة الأولى في الليلة الأولى، ثم الشحنة الثانية بعد يوم من ذلك.
وطبعا ببصلة واحدة؟
نعم.. ببصلة واحدة. لكن المثير في هذه الرحلة هو أن الإسبان الذين سلمونا الحشيش أتوْنا بكثير من الأكل، لكن لم يكن بينها الدجاج مثل المرة السابقة، بل لحم “الحلوف”.
وأكلتموه؟
طبعا أكلناه.. كنا نموت جوعا.. ولو وجدنا لحم بشر لأكلناه. كنا وقتها نموت جوعا ولا وقت لدينا للتمييز بين لحم “الحلوف” ولحم الدجاج.
كانت الرحلة الثانية إذن ناجحة مثل الأولى؟
نعم، ومرت في نفس الظروف تقريبا التي مرت فيها الرحلة الأولى. فقد جاءنا الإسبان ببعض الملابس وذهبنا لاستحمام ثم عدنا نحن الثلاثة من ميناء الجزيرة الخضراء نحو ميناء سبتة، وكان كل واحد منا يتوفر على تذكرته حتى لا يتكرر ما حدث في الرحلة الأولى.
وما هو الحديث الذي كنتم تتبادلونه في باخرة العودة؟
لا مجال للحديث بيننا خلال العودة، وكل واحد منا يجلس لوحده ويحرم علينا تماما الجلوس مع بعضنا البعض حتى لا نثير الشبهات. وكنا ننتظر حتى الخروج إلى بليونيش لكي نلتقي ونتحدث. هذا هو قانون العمل.
وتصلون إلى بليونيش وصول الأبطال؟
كنا نحس وقتها بأننا أنجزنا مهمة كبيرة، وأننا سنحصل على الكثير من المال. وكنا عندما نصل إلى سبتة، نحمل أكياس المواد المهربة على ظهورنا وندخل بها إلى بلونيش بالمجان. كنا وقتها نعتبر أنفسنا أكبر من العمل من أجل 50 درهما، لأننا نحصل على مليونين في كل رحلة، رغم أننا لم نحصل أبدا على هذا المبلغ بالكامل، وكان أصحاب الحشيش دائما يأكلوننا في حقنا.