ليست هذه المذكرات من أجل الإثارة، بل للعبرة، وفيها دروس كثيرة، سواء للمسؤولين الذين همشوا منطقة الشمال وجعلوها مجرد بقرة حلوب، أو بالنسبة للذين دخلوا مغامرة تهريب الحشيش معتقدين أن ذلك هو الخلاص، بينما هي مصيدة حقيقية.
هذا الحوار مع مهرب سابق، تخلى اليوم نهائيا عن تلك “المهنة” بعدما عانى من أهوالها الكثير.
هو اليوم يتأمل ماضيه وذكرياته ويوجه نصيحة للآخرين مفادها أن الحشيش لا يستفيد منه سوى الكبار، وحتى أولئك الكبار لا يفلتون من المقصلة عندما تقتضي الظروف ذلك.
الحلقة الخامسة
كيف كانت نهاية عملك مع الباطرون الأول؟
حدثت المفاجأة يوما وألقي عليه القبض وأودع السجن في بداية التسعينات، وحكم عليه بالسجن عشر سنوات، لكنه خرج بعد سنتين من ذلك. لقد اعتقل بعد أن تم ذكر اسمه في تحقيق مع أشخاص من منطقة “باب تازة”، وهم أشخاص كانوا يتعاملون معه في مجال تهريب الحشيش، ويبدو أن سوء تفاهم حصل بينهم فتمت تصفية الحسابات مع بعضهم البعض بهذه الطريقة. ربما سلموه يوما شحنة حشيش باردة فتخلى عنهم، فقرروا الانتقام منه. وخلال المدة التي قضاها الباطرون في السجن تم تنقيله بين عدد كبير من سجون المغرب، ما بين طنجة وتطوان وشفشاون وأصيلة والعرائش وسطات وغيرها.
عندما كان في السجن، هل توقفت عملياته بالمرة؟
تبقت لديه كمية تزيد عن طنين من المخدرات كان يجب علينا تهريبها في لاحق الأيام، وكنت أقوم بحراستها في مخزن بنواحي القصر الصغير. بعض الأشخاص الذين كانوا يعرفون بوجود السلعة هناك حاولوا تهديدي والضغط علي لتركها. ذهبت عند الباطرون، وكان وقتها في سجن طنجة، وأخبرته بما جرى، فطلب مني ألا أخاف وأستمر في حراستها.
في نفس ذلك اليوم، جاء عندي حوالي ستة أو سبعة أشخاص وهددوني مرة أخرى بأنهم سيحضرون لي الدرك. والغريب أن من وشى بوجود السلعة هناك هو أحد أقرباء الباطرون المسجون. اضطرت في النهاية للإفلات فاستولى أولئك الأشخاص على تلك الكمية من الحشيش، وبعد ذلك بدت عليهم آثار النعمة، حيث اشتروا سيارات أجرة ومنازل وأراض. إن مجموع ما حصلوا عليه من تلك الكمية من المخدرات يقارب المليارين.
كم كان سعر الحشيش وقتها؟
في ذلك الوقت كان صنف الحشيش الأكثر رواجا هو الذي يعرف باسم “الهراوة”، ورغم أنه ليس جيدا إلا أن ثمن الكيلوغرام الواحد يصل إلى قرابة مليون سنتيم في الخارج، بينما سعرها أقل في الداخل، أي في حدود 2000 درهم.
بعد أن دخل ذلك الباطرون المشهور إلى السجن وتوقفت عملياته مؤقتا، لحساب من بدأت تشتغل؟
جاء عندي أشخاص من منطقة قريبة من بلونيش وطلبوا مني أن أشتغل لحسابهم. في ذلك الوقت كانت الحراسة الأمنية على الجانب المغربي مشددة، وارتفعت الأسعار، وصار الحمال الذي يحمل الحشيش من الغابة إلى البحر يحصل على أزيد من 3000 درهما. في تلك الأيام تم رصد وتسجيل مختلف قوارب الصيد، التي كانت تشتغل أيضا في تهريب الحشيش، وبذلك لم تعد تستطيع الخروج دون إذن، وأحست الشبكات الأوروبية بخصاص حقيقي، لذلك صار الإسبان يصلون حتى الشواطئ المغربية ويحملون الحشيش معهم. كانوا يأتون في قوارب جديدة لم تكن متداولة وقتها، وهي قوارب “الزودياك”، التي صرنا نطلق عليها اسم “الكُومة”، لأنها مصنوعة من البلاستيك.
لكن ذلك التشدد الأمني منح الحشيش قيمة كبيرة، حيث ارتفع سعره كثيرا، وصار الكيلوغرام الواحد من الحشيش في الخارج يصل حتى مليون ومائتي ألف سنتيم.
بدأت العمل مع هذه الشبكات الجديدة، وصرت مكلفا بقيادة رحلات تهريب الحشيش، واشتغل معي أشخاص جدد.
يعني أن تهريب الحشيش يستمر رغم دخول المهربين السجن؟
في تلك الفترة، وأقصد بداية التسعينيات، ظهر أشخاص جدد في مجال التهريب، ومن بينهم أشخاص كانوا مجرد “حمالة” في الباطيرات واشتغلوا تحت إمرتي. بينهم من صاروا اليوم من كبار الأغنياء، من بينهم شخص كان سنه وقتها حوالي 18 سنة، وصار اليوم شهيرا، وبدوره اعتقل وسجن.
يعني أنك الوحيد الذي بقيت بدون ثروة؟
فعلا..
كيف تطورت بعد ذلك وسائل العمل؟
مع مرور الوقت تبدلت وسائل العمل، واشتغلت مع باطرون جديد حوالي سنتين، لكن سعر الحشيش عاد للانخفاض، ونحن أيضا عدنا للعمل مقابل مليونين للرحلة فقط بعد أن كنا نأخذ 3 ملايين. كما كثر أيضا الحمالون والمهربون.
بعد ذلك اشتغلت لحساب شخص كان يعتمد طريقة مختلفة في العمل، لأن الحشيش صارت تخرج من ميناء طنجة، حيث كان مركب صيد يخرج من الميناء ويبقى في عرض البحر، ثم تخرج السلعة من مكان ما، وهي في حدود 4 أو 5 أطنان، ويتم شحنها في مركب الصيد، فيكمل المركب طريقه نحو الشواطئ الأوروبية. حدث هذا في ميناء طنجة كما حدث في ميناء العرائش أيضا.
لكن في هذه الفترة بالضبط، أي عندما ازدهرت وتوسعت تجارة الحشيش، حدثت أشياء غريبة، حيث اعتقل الكثيرون، من بينهم أنا، وتم ضبط كميات كبيرة من الحشيش، وسبب ذلك هو زرع الأمن الإسباني لعملائه في أوساط المهربين المغاربة، وأشهرهم مهرب إسباني عميل كان يدعى “باكو”.
كان هذا الشخص يتفق مع مهربين مغاربة على تهريب كميات كبيرة من الحشيش، وعندما يكون الحشيش في عرض البحر يتصل بالحرس المدني الإسباني ويخبرهم بمكان العملية فيتم اعتقال المهربين ومصادرة الحشيش، ويأخذ العميل مكافأة مجزية.
هذه العملية كانت مفيدة للجميع، فالمخبر أو العمل يحصل على نسبة مهمة من المال، والأمن الإسباني يفكك شبكات كثيرة.
كيف وقعت أنت في قبضة الأمن الإسباني؟
كنا نقوم بعملية تهريب معتادة قبالة سواحل طنجة في أحد أيام سنة 1996. لا أستطيع تذكر إن كان ذلك صيفا أم شتاء، لكنه كان وقت عنب، لأن النصارى الذين كنت معهم أعطوني عنبا كان عندهم في المركب.
انطلقت العملية، والتي تمت لحساب الباطرون الأول، الذي كان قد خرج من السجن، في منطقة قريبة من “أشقار”، وكانت الخطة المتفق عليها هي أن يأتي مركب بالحشيش ويفرغ شحنته في مركب آخر موجود في عرض البحر. تم ذلك بنجاح وكنت أنا مع المهربين الإسبان. اتصل صاحب المركب بشخص ما وأخبره بمكان وجودنا في البحر. كنت أعتقد أن من سيأتون هم مهربون لأخذ السلعة، لكن الذين حضروا هم أفراد الحرس المدني الإسباني.
تم تطويقنا بزورق حراسة وطائرة هيلوكبتر عندما كنا على أهبة دخول نهر الوادي الكبير، المؤدي إلى قلب مدينة إشبيلية. كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلا، وكان القبض علينا مفاجأة حقيقية لي لأني قمت بعمليات تهريب كثيرة دون مشاكل.
لاحظت عند القبض علينا أن الصحافيين الإسبان كانوا كثيرين ومزودين بكاميرات وآلات التصوير. حملونا إلى مقر أمني وفتحوا تحقيقا. النصارى حمّلوني مسؤولية كل شيء وقالوا إنهم لا يعرفون شيئا. كنت المغربي الوحيد بينهم وتحملت عواقب تلك العملية الفاشلة بسبب خيانة “النصارى”.