بإمكان المرء أن يكتب عن “الميكا” إلى أن تقوم القيامة. إنها موضوع مشوق، ويمكن إدخالها في كل المواضيع، إنها تشبه “يالالانْ يالالانْ” في الطرب الأندلسي، أي لا بد من العودة إليها مهما كانت طبيعة الأشعار المغناة.
“الميكا” تفضح أشياء كثيرة في هذه البلاد. ففي الوقت الذي تخلص الناس من “الميكا” كحلة ويحاولون التخلص من “الميكا” بشتى أشكالها وألوانها، فإن مسؤولي هذه البلاد لا يزالون يستعملون “الميكا كحْلة” لإخفاء مخططاتهم وأفكارهم ومؤامراتهم.
نزل شعار “زيرو ميكا” على الناس كما لو أنهم سمعوا فجأة بأن سكان فضائيين نزلوا على كوكب الأرض، أي بدون مقدمات وبدون أي بديل، لذلك لا تزال “الميكا” سيدة الأسواق في كل المدن والقرى. جربوا أن تطلبوا من بائع في سوق شعبي أن يعطيكم “القرطاس” بدل “الميكا”.. أكيد أنكم ستتحولون إلى مادة للسخرية والتندر. وجربوا أن تحتجوا على بائع خبز ساخن يضع الخبز مباشرة من الفرن إلى “الميكا”، قولوا له إن هذا عير صحي، أكيد أنه سيلقنك دروسا كثيرة في السياسية والاقتصاد وسيحول وجهك إلى قفاك وسيجعلك تحس بالخجل لأنك لم تستطع أن ترفع شعار “إرحل” إلا في وجه “الميكا”، وكل ما عدا ذلك بقي وسيبقى في مكانه.
هذه الحملة ضد الأكياس البلاستيكية تذكرنا بذلك الزمن الذي كانت فيه الإذاعة سيدة العالم، وكان الناس، في كل صباح، ينصتون بإمعان كبير لبرامج خاصة حول أسعار المواد الغذائية، خصوصا الخضار والفواكه، وعندما يتوجه الناس إلى الأسواق للتبضع يجدون الأسعار مختلفة تماما، وعندما يحتجون يقول لهم الباعة: سيرو تْقضّاوْ من الإذاعة..!
هذا ما حدث في الأيام الأولى لدخول شعار “زيرو ميكا” حيز التنفيذ. وحدها الأسواق الكبرى تستعمل القرطاس، بل تبيعه، وتبيع أيضا مئات الآلاف من “القفف” الصناعية التي لا علاقة لها بالقفة التقليدية المغربية. في التلفزيون يُظهرون لنا فقط القفة المغربية التقليدية، وفي الأسواق الممتازة لا شيء غير القفة الصناعية المصنوعة من مشتقات البلاستيك! يا له من بلد عجيب استخدم أزيد من 30 مليون مغربي من أجل الدعاية لاحتضان مؤتمر قمة البيئة “كوب 22”!
لكن العجب صار يقترب من الحمق هذه الأيام، لأن مسؤولينا لا يزالون يستعملون “الميكا كحْلة” في أعماق عقولهم، لذلك قرروا استقبال كميات هائلة من النفايات الإيطالية. تصوروا كيف نقيم الدنيا ولا نقعدها من أجل منع الأكياس البلاستيكية البيضاء، ثم نقرر، في الوقت نفسه وفي الظروف نفسها، استقبال آلاف الأطنان من النفايات الإيطالية التي تعتبر إحدى أسوأ النفايات في العالم، وفي يوم واحد وصلت قرابة ثلاثة آلاف طن من هذه النفايات نحو ميناء مغربي! الحقيقة أنه لا يوجد حمق أكبر من هذا!
لو أن هذا الشعب، الذي يسمى الشعب المغربي، كان يملك قوة المبادرة والعزيمة لتم تنظيم مظاهرة مليونية فورا ضد هؤلاء المسؤولين الأغبياء الذين يتلاعبون بعقولنا وعواطفنا. يرفعون شعار “زيرو ميكا” ثم يقرون استيراد كميات هائلة من النفايات الإيطالية لإحراقها في المغرب.
الحاكمون، الذين لا يزالون يعتبرون هذا الشعب مجرد طفل رضيع يمضغ “الرضاعات” والأوهام، كان يجب، على الأقل، أن يتصرفوا بطريقة عقلانية، ويوزعوا النفايات الإيطالية على كل المدن المغربية، من أجل إنعاش عمل “الميخالة”، الذين صاروا يشكلون طبقة عمالية حقيقية في “أجمل بلد في العالم”، وقريبا قد يعززون صفوف الأحزاب والنقابات ويخرجون في مظاهرات فاتح ماي، وهؤلاء يعانون الأمرّين مع النفايات المحلية، وستكون سعادتهم كبيرة لو وزعنا عليهم نفايات قادمة من الاتحاد الأوربي.
ثم من قال إننا في حاجة، أصلا، لنفايات إيطالية؟ ففي كل صيف يتكفل آلاف المهاجرين المغاربة في أوربا، وفي إيطاليا على الخصوص، بحمال أطنان كثيرة من هذه النفايات التي يجمعونها من أي مكان، ثم يشحنونها على ظهور سياراتهم الكبيرة ويربطونها بالأسلاك والحبال ويقطعون آلاف الكيلومترات قبل أن يصلوا بها إلى المغرب ويمرون عبر “الديوانة” كأنهم يحملون الورد، ثم يعرضون نفاياتهم في الأسواق المغربية بالمدن والقرى، لذلك يمكنك أن تجد مهاجرا يبيع دمية بلا يد، ورجْل دمية بلا دمية، ومصباحا كهربائيا محترقا، وثلاجة ميئوس من علاجها، ومحرك ثلاجة بلا ثلاجة، وقعر حذاء بلا حذاء، وحذاء بلا قعر، وأشياء كثيرة يحملونها إلى المغرب من دون أن يتبيّنوا ما هي!
في البداية قلت إن الكتابة عن “الميكا” يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، لأن “الميكا” أم المواضيع، فسياساتنا وطرق تفكيرنا ومخططاتنا كلها نضعها في “الميكا”.. في “الميكا كحْلة” على الخصوص، ويكذب كل من يظن أننا سنتخلص قريبا من هذه “الميكا” الملعونة، لأننا نضع فيها كل شيء!
(عبد الله الدامون/ عن المساء)