توفيق رباحي

أمس الأول، الأحد، نشر الموقع الإخباري «كل شيء عن الجزائر» تقريرا لاذعا يهاجم فيه من اعتبرهم مسؤولين عن الخيبة التي مُنيت بها الجزائر في «ملحمة» الكاميرون والحكم الغامبي باكاري غساما.

بالخيبة أقصد الفشل في إقناع الفيفا والمتابعين الأجانب بصوابية الطعن الجزائري والمطالبة بإعادة مباراة التأهل لمونديال قطر. وأقصد تحوّل الموضوع إلى مسلسل يتندر به العقلاء من الجزائريين وغيرهم.

محتوى تقرير الموقع أن الهستيريا التي عاشتها الجزائر منذ المباراة يوم 29 آذار (مارس) الماضي إلى اليوم أساءت لها ولم تنفعها، وكذلك فعل مَن سماهم الانتهازيين الذين قادوا حملات التأثير في الرأي العام وإلهائه بموضوع “كانوا يدركون منذ البداية أنه حُسم”.

من عجائب الموقف أن “كل شيء عن الجزائر” ذاته، الذي اكتسب جدية وثقة بين جمهوره، خاض مع الخائضين منذ ليلة إقصاء الفريق الجزائري وكان أحد الذين خصصوا متابعة يومية لـ«الملحمة» مراعيا المزاج الشعبي وأهواء محركي وهم “الماتش يتعاود”.

هل يجوز اعتبار هذا التحول بداية توبة من هذا المسلسل غير المشرّف؟

لست متفائلا، لكن بعد هذا الانهيار غير المسبوق الذي وصلنا إليه، أتمنى ذلك صادقا.

المُحزن في الأمر أن البلاد احتاجت إلى قرابة شهر ونصف الشهر، وإلى تهريج كبير أخشى أنه مسَّ بسمعتها ومكانتها، حتى نقرأ مثل تقرير “كل شيء عن الجزائر” وتصل البلاد إلى ما كان واضحا منذ اليوم الأول لا يحتاج إلى أيّ جهد أو عبقرية: الإقصاء من المونديال لا رجعة فيه، وادعاء عكس ذلك مجرد ضحك على ذقون الناس.

لو امتلكت الصحافة الجزائرية جرأة قول الحقيقة وحكمة التحرر من الغوغائية، ولو تركت لصوت العقل والعقلاء مساحة ولو صغيرة، لكُنّا اليوم بالتأكيد في وضع أفضل وسخرية الآخرين منا أقل. كان حالنا سيكون أفضل اليوم لو أن وُجدت في البلاد نُخب على قدر من المسؤولية والعقل يمكّنها من تخفيف الأضرار.

يوم الثلاثاء 5 نيسان (إبريل) الماضي كتبت عن الموضوع في هذه المساحة. نبّهت إلى خطورة التوظيف السياسي للكرة، وإلى خطورة عواقب تحريض الناس على رفض الهزيمة لأغراض بعيدة عن الرياضة تُنمّي فيهم العداوات وكراهية الآخر لأنه انتصر عليهم.
مما قلت أن الجزائر أرادت من فريق كرة القدم ومدربه جمال بلماضي أن يحققا لها ما عجز عنه الحكام والسياسيون، وأن السياسيين انتظروا من بلماضي وفريقه أن يحققا للجزائر ما عجزوا هم عن تحقيقه.

وقلت غير مازح أن المطلوب، بعد الهستيريا الخطيرة التي أصابت البلاد عقب الإقصاء من مونديال قطر، إصدار أمر قضائي أو رئاسي يمنع الحديث علنا في مباراة الجزائر والكاميرون، مثلما تفعل إسرائيل عندما يتعلق الأمر بالمهمات الأمنية السرية التي ينفذها جيشها وأجهزتها الأمنية.

لسوء الحظ، كانت الهستيريا توحي بالاتجاه نحو نوع من الهدوء عندما خرج بلماضي، بعد أربعة أسابيع من الصمت، ليخوض في نقاش يدرك قبل غيره ألَّا عقل فيه وبالكاد بدأ يهدأ.

بكلامه في قناة اتحاد الكرة الجزائري، أعاد بلماضي النفخ في نار الفتنة، وأحيا وهمًا بدأت تلوح فيه بعض إشارات النهاية.
أما الأخطر من كل هذا، أن بلماضي أصاب بالضربة القاضية رصيده الشخصي والمهني. أساء لسجله كمدرب منضبط ومسؤول وصارم عندما اختار الخوض في موضوع الحكم الغامبي بعد مرور كل ذلك الوقت، وبطريقة “شفته (الحكم) في صالة كبار الزوار بالمطار مسترخيا يشرب اسبريسو وياكل ميلفوي، فقلت له وقال لي” و”أنا لا أدعو إلى قتله، لكن لن نقبل بأن تمر الإساءة لنا مرور الكرام”.. إلخ.

مؤسف أن يصدر هذا الكلام من بلماضي بالذات. كان أمامه أحد حلّين بعد الإخفاق في التأهل للمونديال: أن يعتذر من الجزائريين ويستقبل بكرامة، أو يعتذر من الجزائريين ويقرر الاستمرار في مهامه مع خارطة طريق واضحة بأهداف أوضح. وفي كلا الحلّين ما يحفظ كرامته ومكانته. لكنه اختار الالتحاق بجوقة الهستيريا ودغدغة وهم “الماتش يتعاود”.

بكلامه هذا لم يقترب بلماضي من المتاعب الإدارية مع الفيفا والهيئات الرياضية الدولية فقط، وإنما وضع نفسه في تماس مع القانون الجنائي بحديثه عن القتل ولو في تلك الصيغة غير الصريحة.

لماذا قال بلماضي ذلك الكلام الخطير بعد كل ذلك الوقت سيبقى لغزا إلى أن يقرر هو كشفه ومصارحة الجزائريين به. النتيجة الأكيدة أن ذلك الكلام كانت له تبعات أبرزها عودة النقاش العقيم للواجهة كأن المباراة لُعبت أمس. ومنها المظاهرة الغوغائية لبعض الجزائريين أمام مقر الفيفا في سويسرا للضغط (زعما) باتجاه “الماتش يتعاود”.

ومن ثمار ذلك الكلام أيضا كان اشتعال منصات التواصل الاجتماعي وانقضاض مَن يُسمون أنفسهم “مؤثرين” و”صنّاع محتوى” على الفرصة مثل انقضاض النسور الجائعة على فرائسها لكسب مزيد من المشاهدات ومضاعفة المداخيل. المشكلة في ظاهرها كرة ومونديال، لكنها في الحقيقة أعمق وأخطر. اليوم انتقلت الجزائر إلى مرحلة خسائر ما بعد خسارة التأهل للمونديال.. السمعة والمكانة ومراكمة العنصرية والأحقاد تجاه الكاميرون وإفريقيا وغامبيا والحكم غساما (أصبح واحدا من العائلة!) وثقة الأوساط الرياضية والكروية القارية والعالمية.

على مَن اقتادوا الجزائر إلى هذا الشقاء الجمعي أن يتحملوا مسؤولية إنقاذها منه. أقول هذا وكلي ثقة أن السياسة غير بريئة من هذا ويدها حاضرة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version