مصطلح التوحيد من بين المصطلحات التي أثارت جدلا كبيرا داخل صفوف المهتمين بالشأن الديني عامة، والعلماء المسلمين خاصة. فلقد تضاربت الآراء حول تعريف هذا المصطلح، وكيفية توظيفه في النصوص الفلسفية والفقهية والصوفية. وهناك من تحفظ في استعماله مخافة الوقوع في مزالق تتمثل في سوء الفهم وبالتالي المس بالجانب العقائدي الذي يظل لصيقا بمصطلح التوحيد أو جزءا لا يتجزأ منه. فهذه الصعوبات التي ذكرناها ذهب ضحيتها العلماء المسلمون الأقدمون، بينما المجددين منهم أحاطوا هذا المصطلح بعناية خاصة. وعلى ذكر المجددين نخص بالذكر، بديع الزمان سعيد النورسي،  الذي جعل من مصطلح التوحيد ركنا من أركان مشروعه التجديدي، ويظهر هذا جليا من خلال نجاحه في جعله-  مصطلح التوحيد – وسيلة فعالة لتجديد الدين في المجتمع.

أما إذا قمنا بتعريفه وذلك باعتمادنا على تعار يف لغوية تعود لمجموعة من العلماء المسلمين فإننا سنجد صيغة تعريفية واحدة لمصطلح التوحيد والتي تعود لأصل واحد وهو التفرد والإنفراد والتفريد، حسب الأغراض الصرفية.

ومع هذا كله فهناك اختلاف كبير بين مجموعة من المعاجم حول تحديد مفهوم “الواحد” و”الأحد” رغم أنهما لا يخرجان عن معنى التوحيد عموما. وعلى سبيل المثال سنعرض هنا التعريف الاصطلاحي للتوحيد لبديع الزمان سعيد النورسي والذي شرح فيه مفهوم “الواحد ” و”الأحد “. فوصف الأول بأنه التوحيد العامي الظاهري، والثاني بأنه التوحيد الحقيقي، مع اعتبار الثاني منهما يتضمن الأول، كما يتضمن معاني أخرى ثانوية للتوحيد.

لهذا اعتبر النورسي المعنى الثاني هو المعنى الرئيسي المعتمد. وهذا ملخص ما أراده النورسي من مفهوم “التوحيد” حسب ما ضمنه الأستاذ فريد الأنصاري، رحمه الله، في كتابه “مفاتح النور”. التوحيد الحقيقي: وهو الإيمان بيقين أقرب ما يكون إلى الشهود بوحدانيته سبحانه، وبصدور كل شيء من يد قدرته، وبأنه لا شريك له في إلوهيته، ولا معين له  في ربوبيته، ولا ند له في ملكه، إيمانا يهب لصاحبه الاطمئنان الدائم، وسكينة القلب، لرؤية آية قدرته، وختم ربوبيته، ونقش قلمه على كل شيء فينفتح شباك نافذ من كل شيء إلى نوره سبحانه، ذلك التوحيد الحقيقي الخالص السامي.

فمن خلال ما سبق يتضح لنا أن التوحيد ليس مجرد تصور ذهني أو اعتقاد عقلي فحسب، بل هو أرقى العبادات وأقدسها، وهذا ما أكده بديع الزمان النورسي كذلك حين قال: إن تكرار أهل الإيمان”لا إله إلا الله”، وبخاصة المتصوفة منهم، وإعلانهم نداء التوحيد، وتذكيرهم به ، يبين لنا أن التوحيد هو أهم وظيفة قدسية وأحلى فريضة فطرية، وأسمى عبادة إيمانية.

ولم يكتف النورسي باستعراض هذه السلوكات والتي هي نتاج للتوحيد الحقيقي، بل لخصها في الكلمات التالية: اللطف، والجمال، والحلاوة، واللذة، والنورانية، التي تفضي كلها في الأخير إلى إخلاص التوجه إلى الله سبحانه وتعالى.

فهذا المصطلح إذن “التوحيد”، يبقى من أهم المفاتيح الاصطلاحية لفكر بديع الزمان النورسي، حيث كان أضخم مفهوم عنده، وأثقل مصطلح في منظومته الفكرية، فكل أعماله العلمية كانت تدور في مجملها حول محور التوحيد بمراتبه المختلفة.

وقد يتساءل البعض لما أحاط بديع الزمان النورسي هذا المصطلح بعناية واهتمام خاصين في أبحاثه العلمية بشكل عام والتفسيرية بشكل خاص . فللإجابة عن هذا السؤال لبد أن نعود للظرفية التاريخية التي شكلت الأرضية الخصبة لتداول هذا المصطلح. ففي العصر الذي عاش فيه سعيد بديع الزمان النورسي- النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين –  كانت تركيا قد وصلت إلى مستوى لا يوصف من الانحلال والإلحاد، ومن نماذجه التنكر للدين وأهله، ولا سيما من طرف الطبقة المثقفة. وهذا ما كان يتخوف منه بديع الزمان سعيد النورسي الذي رفع شعار التحدي للتصدي لكل أشكال الانحلال والتطرف.  لذا وجد النورسي في تحقيق مفهوم التوحيد – من خلال اعتماده على دلائل قرآنية – وسيلة لإنقاذ العقيدة الحقة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version