من ذلك اليوم الذي وطأت فيه أقدام الشيخ الفزازي عتبة زنزانة سجن “ساتفيلاج” بطنجة، إلى اليوم الذي وقف فيه على المنبر يخطب أمام الملك محمد السادس، جرت أشياء وأشياء، وظهر فيه هذا الشيخ السلفي كداهية وليس مجرد إمام يخطب في الناس يوم الجمعة ويعلمهم أصول الصلاة ونواقض الوضوء.
نجومية الشيخ الفزازي ليست وليدة الأمس، فهو نجم الخطباء في طنجة سنوات السبعينيات وبداية الثمانينيات، والناس يتذكرون كيف أنه كان يشعل مسجد عين الحياني حماسا والناس ينتظرون خطبته كل جمعة كما ينتظر الجائع قصعة كسكس بسبع خْضاري.
الفزازي ليس مجرد عالم دين وإمام مسجد، بل هو خطيب مفوه جعل الناس في تلك الفترة البعيدة يحسون أن أفغانستان أهم من المغرب، وكابول أقدس من طنجة، والجهاد فرض عين على كل مسلم، وتحمس لكلامه كثيرون، بمن فيهم ابنه الأكبر الذي ذهب بدوره إلى أفغانستان، وعاد منها سالما، لكنه لم يسلم من حجز جواز سفره، وظل معلقا في المغرب قبل أن يتمكن بعدها للتوجه نحو البرتغال، حيث يعيش مع زوجته البرتغالية.
المراجعة عند المقدرة
بزغ نجم الفزازي مرة أخرى في أوج موجة السلفية الجهادية في المغرب، وهي موجة حلت مثل تسونامي مدمر وجرفت ما في طريقها خلال التفجيرات الدامية في 16 ماي 2003 بالدار البيضاء، وهي تفجيرات ليس لها ما قبلها، لكن لها الكثير مما بعدها.
يومها كان الشيخ الوسيم يلبس جبة السلفية الجهادية ولا يخاف في أفكاره لومة لائم، حتى أنه أدلى بحوار ناري لصحيفة “الشرق الأوسط”، ومباشرة بعد ذلك وجد نفسه محكوما بثلاثين سنة سجنا نافذا، بتهمة الترويج للإرهاب والتحريض على الكراهية والعنف.
بقي الفزازي في السجن يراجع ما قال ويتساءل عن مكمن الخطأ، وفي تلك الزنزانة، التي كان يُعامل فيها باحترام وتقدير، خلط الكثير من أفكاره القديمة بأفكار جديدة وكان ما كان، ثم جاء بعدها العفو بعد ثمان سنوات خلف القضبان.
مع 9 وضد 20
خرج الشيخ الصلب من زنزانته وكأنه لم يكن فيها أبدا. ظل وسيما كما كان وأنيقا كعادته وبشوشا كأن أية محنة لم تعبر طريقه.
قال كثيرون إن الرجل راجع الكثير من أفكاره ليدفعها ثمنا لحريته، وقال آخرون إنه داهية لا يراجع غير قضايا معينة لكي يضعها على طاولة المفاوضات، ثم تعرض الرجل لأكبر هزة عائلية حين تبرأ منه والده المسن، ثم حدث صلح هامشي لا دخل للناس فيه، فصار الناس يقولون.. والشيخ الفزازي يقول.. وما يكون إلا ما يقوله القدر.
في أوج حركة 20 فبراير كانت للشيخ ورقة يلعبها، فخرج في الناس معلنا دعمه للخطاب الملكي لـ9 مارس ومبتعدا أقصى ما يمكن عن حركة 20 فبراير. هل فعلها باقتناع؟ الله أعلم.. فلا أحد يقرأ ما في الصدور.. وخصوصا صدر الشيخ الجليل المختبئ خلف لحيته الطويلة المختلطة بشيب كثير.
السلفي الملكي
في الانتخابات التشريعية صوت الفزازي وصحبه على حزب العدالة والتنمية، ومشى معه سلفيون كثيرون، ثم صار بنكيران أول رئيس حكومة ملتح ل”الربيع المغربي”.
لم يقبض الشيخ الفزازي ثمن أي شيء من ذلك، وظل يلح على ضرورة الحصول على منبره الخاص، واشتاق إلى أدراج المنبر.. ولام الذين وعدوه ولم يوفوه الكيل والميزان، إلى أن كان ما كان، وحصل على مسجده الخصوصي في قلب منطقة صعبة المراس، اسمها “كاسبراطا”، معقل جماعة العدل والإحسان، التي لا يقتسم معها الشيخ الفزازي إلا الخير والإحسان.
ثم.. وبعد ذلك.. وفيما يشبه لمح البصر.. رأى الناس شيخ السلفية الجهادية يخطب أمام الملك، وهناك من أمسك برأسه تعجبا، وهناك من كان يمسك أصلا بخيوط الأحداث فلم يحرْ ولم يتعجب.
رمز التحول
الفزازي سلفي استثنائي في زمن استثنائي. إنه يعرف أن الدولة تحتاجه بقدر ما يحتاج هو إلى الدولة. إنه رجل بحجم حزب، ويعرف أنه إن خسر أشياء فإنه سيربح أشياء هناك.
طبعا، الشيخ الفزازي لم يخطب أمام الملك من أجل الحصول على منحة الخمسين ألف درهم، بل حصل على منحة للمستقبل، ربما يؤسس بها حزبا وربما يظل للبعض رمزا.. وربما يكون نموذجا لتحول لم يتوقعه أحد.
من زنزانة سجن ساتفيلاج إلى الوقوف على المنبر أمام الملك. هذا شيء لا يقدر عليه إلا رجل يسمى.. الشيخ محمد الفزازي.. إنه صياد يستمتع بما يفعل.. ويصطاد السمكة المناسبة في البحر المناسب.
لا توجد تعليقات
كاتب المقال كان دقيقاً في سرد كرونولوجيا الشيخ الفزازي ومع ذلك فقد أغفل وقائع وضرب صفحاً عن أمور…
ولقد وردت في المقال أعلاه جمل موجزة تندرج تحتها جزئيات وتفاصيل أذكرها في تعليقي هذا الذي هو بمثابة حاشية على المتن…
الجملة الأولى:
قوله: (والناس يتذكرون كيف أنه كان يشعل مسجد عين الحياني حماسا)
يقصد الكاتب مسجد الموحدين بعين الحياني ذا التوجه السلفي التقليدي والذي كان يمول آنذاك بأموال النفط من إحدى بلدان الخليج، وقد خطب ” الشيخ الفزازي” في هذا المسجد سنوات أوائل الثمانينات وفي إحدى خطبه ألهب مشاعر المصلين وخاصة الشباب منهم وهيجهم وحرضهم على تغيير المنكر فخرجوا من صلاة الجمعة في مظاهرات جابت شوارع المدينة بشعارات ضد النظام وتم التخريب وتكسير بعض الممتلكات، فما لبث أن جاء صبح يوم ذلك السبت حتى صار “أصحاب الحال” يلتقطون أولئك المتظاهرين واحداً واحداً وقد حكى بعضهم فيما بعد أنه تم تعذيبه عذاباً شديداً… لكن “الشيخ الفزازي” والحال هذه كان طليقاً يتجول في طنجة وكأن شيئاً لم يقع…!
الجملة الثانية:
قوله: (وهناك من كان يمسك أصلا بخيوط الأحداث فلم يحرْ ولم يتعجب.)
أقول للكاتب صدقت وأنا ممن لم تأخذهم الحيرة ولا العجب، فقد حدثني الثقة والثقتان عن الشيخ إبراهيم بن الصديق أنه عندما كان (رحمه الله) رئيساً للمجلس العلمي بطنجة إبان التسعينات وكان حينها تم توقيف “الشيخ الفزازي” عن خطبة الجمعة…؟ فما لبث الشيخ موقوفاً مدة قصيرة حتى جاءت التعليمات من وزارة إدريس البصري إلى المجلس العلمي بطنجة أن يُمكَّن “الشيخ الفزازي” من خطبة الجمعة في أي مسجد يختاره بطنجة.. وقد تم تنفيذ التعليمات واستدعي الشيخ إلى المجلس العلمي وخيروه فقال لهم: أنا لو شئت لاخترت مسجد محمد الخامس ولكني أختار مسجد القنطرة يعني قنطرة بنديبان الحي الذي كان يسكنه الشيخ آنذاك وكان لا يزال متزوجاً بالأولى أم أولاده.
الجملة الثالثة:
(وفي تلك الزنزانة، التي كان يُعامل فيها باحترام وتقدير،)
أقول للكاتب مرة ثانية صدقت فقد كان أحد معارفي في العمل مسجونا في قضية حكم بعدها بالبراءة أيام كان “الشيخ الفزازي” في سات فيلاج، خرج الشخص المذكور قبل خروج “الشيخ” وكان يحدثني عن أحوال السجن والمسجونين فقال لي: لقد التقيت بـ “الشيخ الفزازي” مراراً وإن له حرية في التصرف داخل السجن تختلف عن مسجونين آخرين حتى أنه أُذِن له في التجارة مع السجناء يبيعهم اللحم.
الجملة الرابعة:
قوله: (لم يقبض الشيخ الفزازي ثمن أي شيء من ذلك،…)
بل أخذ مأذونية طاكسي صغير رقمها من الأرقام التي تم تشغيلها مؤخراً بمدينة طنجة ولعل رقمها بالضبط 1887 إلا أن هناك من المتتبعين من يذكر أنه طلبها في اسم إحدى زوجاته ولعل ذلك حتى لا يذكره وزير النقل في كشف من كشوفاته وإذا صدق هذا الأمر فإن التاريخ سوف يسجل أن عبد الباري الزمزمي كان أصدق وأشجع وأشد جرأة ووضوحاً للرأي العام من “الشيخ الفزازي”.