طنجة أنتر:
في زمن قد مضى، وخلف ذلك البحر، عبر مضيق جبل طارق، كان قمر الفردوس منيرا. إمارة الأندلس، حاضرة العالم، وقبلته الثقافية، وأول مدينة متحضرة بقصورها وجامعاتها ومساجدها وبيوتها. الأندلس حيث قصر الحمراء ومسجد قرطبة وحدائق الرصافة. الأندلس حيث تجلّت الجنة على ربوع الأرض. لتمر تلك السنون تلو السنين ثم ليأفل ذلك القمر، وتُغيّب تلك الحضارة بأبشع الطرق الوحشية، وقتل ذلك الشعب وتناثرت لآلئه هربا من بطش محاكم التفتيش، لتستقر بعض تلك اللآلئ على سواحل المغرب العربي.
حينما نرغب بالبحث عن بقايا الفردوس الضائع يتبادر للأذهان الساحل المغربي المحاذي لمضيق جبل طارق؛ حيث كانت بداية الحكاية، حينما عبر طارق بن زياد بجيشه لفتح شبه الجزيرة الإيبيرية أو ما بات يعرف لاحقا بأرض الأندلس إبان فترة الخلافة الأموية، ليتوسع ذلك الفتح وتتظافر تلك الجهود حتى تصبح الأندلس قبلة العالم، ازدهرت فيها العلوم والأدب، بل وكانت غاية في الجمال لانتشار العمارة الإسلامية المتمثلة بقصورها البهية وحدائقها الزهية. لتكن الأندلس مشرقة بكل ما تعنيه الكلمة.
ثم تلت تلك المرحلة المشرقة، مرحلة الأفول؛ حيث تفرق الأندلسيون، فنزعت المهابة من صدور أعدائهم، وتداعت قلاعهم وحصونهم بالسقوط واحدة تلو الأخرى، بالرغم من تطورهم العلمي والتكنولوجي وكثرة أعدادهم آنذاك، حتى سقوط غرناطة التي مثلت آخر معاقل المسلمين في الأندلس. وتلت سقوط غرناطة أحداث أليمة، عانى منها المسلمون وحتى اليهود؛ تمثلت بجرائم محاكم التفتيش، التي قتلت وصلبت وحرقت الآلاف في أوسع عملية تطهير ديني شهدها العالم في تلك الفترة، ليهرب بقية الأندلسيين باتجاه الجنوب حيث سواحل المغرب العربي، ليستقروا عليها. وبهذا طويت صحيفة الأندلس لتطوى معها ثمانمائة عام حافل بالعلم والرخاء والسلام، وكذلك يطوى معها تاريخ أليم لشعب عرف جيدا معنى الندم. ذلك الشعب الذي قتل منه من قتل، وهجر منه من هجر، ولتطمس تلك الهوية إلى الأبد.
يعيش الأندلسيون اليوم على المناطق الساحلية للمغرب، في قرى ذات طابع مختلف من حيث طريقة البناء التي تشبه البيوت الأندلسية الأوروبية إلى حد ما، ومعه اختلفت ملامحهم الشقراء عن الملامح السمراء الأفريقية، وقراهم الجميلة البهية التي تتناثر على الساحل المغربي المقابل لمضيق جبل طارق، لترسم طريقا متلألئا لامعا كأنما أمطرت عليه السماء لؤلؤها ليكون دليلا مرشدا للباحثين عن الفردوس الضائع، كأنه يخبر من يمر بتلك القرى أن هنالك خلف ذلك البحر كان الفردوس في الماضي قبل أن نفقده.
أما عن سبب استيطانهم الساحل فهو أمنية ابتدعها أجدادهم ليكونوا في بادئ الأمر قريبين من الأندلس، ليشموا عبق نسيمها العابر للبحر، وليشاهدوا إنجازا ضائعا، ووطنا مختطفا، كلما توجهت أنظارهم صوب البحر. جاؤوا أول مرة فاستوطنوا الساحل ليريحوا ركابهم من مشقة الهجرة، ثم أرادوا أن يكونوا قريبين وكانوا مستعدين للعودة للأندلس، وكان هذا الأمل قويا مستمدا من عدم تصديق فكرة أن يأفل نجم الأندلس ويتلاشى بهذه السهولة، ذلك الفردوس الذي أضفى للعالم ما لا يحصى من العلوم، والفنون، والتحضر. ولكن توالت الأيام، ثم السنوات، ولم يعودوا، حينها أيقنوا استحالة عودتهم، فبنوا قراهم التي تشبه إلى حد ما القرى الأندلسية، ثم بعد ذلك اختاروا أن يحافظوا على تراثهم، وأزيائهم، ثم أصبحوا يخافون على وحدتهم وتماسكهم، لأنهم ضاقوا مرارة التفرق والتشرذم بفقدان الأندلس، واليوم لا يريدون أن يذوقوا مرارة أخرى وإن كانت لا تقارن بمرارة خسران الفردوس الضائع.
في منطقة “جبالة” التي تحتوي قبائل كثيرة تعرف بقبائل جبالة، التي أخذت اسمها من اسم المنطقة الجبلية التي تستوطنها، يسكن القسم الأكبر من الأندلسيين. جاؤوا معهم بالكثير من العادات الأندلسية، والخبرات في المجال العلمي، والزراعي، والثقافي، والاقتصادي، ليضفوا لهذه المنطقة الكثير من التطور. ومن مسلسل تعلق الأندلسيين بموطنهم الضائع هو تسمية الكثير من المناطق بأسماء كانت واردة في الأندلس مثل المنصورة، والقلعة، والحومة، والخندق؛ كل هذه المناطق مشتقة من أسماء مناطق أندلسية.
وحتى اليوم، ما زال الأندلسيون يحافظون على تراثهم وطريقة عيشهم، حيث نقلوا إسهاماتهم العلمية وألّفوا الكتب والمجلدات، كما جلبوا معهم أساليب متطورة بالزراعة وغرس الأشجار، وجلبوا معهم أيضا النباتات والفواكه الأندلسية مثل “التين القوطي” و”التين الشعري” وأصناف أخرى من الفواكه الأندلسية المنتشرة في أنجرة.
وتحتفظ قبائل أنجرة بلهجتها الأندلسية الخالصة، بالإضافة للمفردات العربية والقشتالية القديمة والحديثة والمفردات التركية والفرنسية والفارسية، في لهجة عجيبة تحكي واقع الأندلس وكيف عاش العربي والأعجمي والفارسي والتركي والقشتالي حياة طبيعية تحت الخيمة الإسلامية لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى.
كما يمتاز البيت الأنجري بعاداته الإسلامية الرصينة ومدى التزامه بتعاليم الدين الإسلامي، حيث يحتفي الأنجريون بالمولد النبوي الشريف وكذلك بعيدي الفطر والأضحى المباركين، بالإضافة إلى الأعياد الأندلسية التي لا علاقة لها بالدين الإسلامي مثل عيد ليلة الميلاد أو “النيروز”، وكذلك عيد “العنصرة”؛ حيث يحتفل به الأندلسيون وهو يوم ميلاد زكريا بن يحيى عليه السلام.
يعيش الأندلسيون في أنجرة حياة منعزلة عن بقية العالم، كما أن بعض العوائل الأندلسية تحتفظ بمفاتيح أبواب منازلهم في الأندلس حتى هذا اليوم، وهم ينتظرون كل يوم أن ينادي فيهم طارق بن زياد من أجل أن يعبروا البحر ويعودوا لذلك الوطن، ويسكنوا تلك البيوت، في سابقة تشير لمدى تمسك الإنسان الأندلسي بأندلسيته ولو طال الفراق، في صورة تجسد بقاء هذا العرق النقي قاطنا على السواحل المقابلة لبلدهم الأم، ولا يخفي أحد منهم أمنية العودة المستحيلة للفردوس.
وبين أمنية عودتهم للأندلس وبقائهم في بلاد المغرب، يجب أن نتخذ من الأندلسيين الدروس والعبر، يجب أن نتعلم منهم، لأنهم الدليل الحي وهم بمثابة التاريخ الذي يعلمنا أنه لا فائدة من كثرة الكراسي والإمارات والأمة مهشمة، لا فائدة من النزاعات والاختلافات والأمة متفرقة، يجب أن نتعلم منهم أنه بوحدتنا فتحنا أوروبا وملكنا الأندلس ووصلت جيوشنا مدينة باريس، وحينما تفرقنا أصبحنا مجرد قبيلة على سفح الجبل، ولسان حالها يقول: مللنا من سفح الجبل كما مللنا من عض تلك الأصابع ندما على تفريطنا في وحدتنا. فهل من مدّكر!؟