أنوال فخر للمغاربة ونكبة للإسبان. لهذا لا يزال الإسبان يطلقون عليها اليوم اسم “نكبة أنوال”. هذا التعبير يشبه إلى حد كبير عبارة “نكسة حزيران”، أو نكسة يونيو” التي أطلقها العرب على حرب 7 يونيو التي حطمت فيها إسرائيل كل القدرات الحربية لمصر قبل أن تبدأ الحرب، واعتبرت تلك الهزيمة نكسة بكل المقاييس. هكذا يبدو أن الإسبان ألهموا العرب طريقة إطلاق الأسماء على الهزائم.
لكن من المفارقات الغريبة أن الإسبان الذين انهزموا في تلك المعركة الكبيرة لا يزالون إلى اليوم يتحدثون عنها بكثير من الاستفاضة وكثير من التفاصيل، وفي كل عام تظهر معطيات ووثائق ومعلومات جديدة يأتي بها الباحثون الذين لم يتوقفوا عن البحث والتقصي في حرب أذلتهم إلى الأبد.
انتصار وجحود
لكن المغاربة الذين انتصروا في أنوال، فقدوا كل رابط معها وأصبح اسمها يحيل على كثير من الحساسيات السياسية والجغرافية، لذلك عندما يحل يوم 21 يوليوز فإن التلفزيون المغربي يكتفي بإشارات بسيطة إلى تلك المعركة الخالدة وكأنها جرت على سطح المريخ، بينما الصحف تتعامل معها من باب “إزالة العتب”.
ربما أصبح المسؤولون المغاربة يخافون من استرجاع ذكريات أنوال لأنها تعيد إليهم أشباح الماضي. إنها تعيد إليهم ذكرى انتصار مقاتلي شمال المغرب ضد واحدة من أعتى القوات الاستعمارية في ذلك الوقت، ولأن ذلك الانتصار تبعته مباشرة إجراءات “إنشاء جمهورية” في شمال المغرب التي لا يزال الكثيرون إلى اليوم يختلفون حول حقيقتها وظروف نشأتها والعوامل التي دفعت المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى تأسيسها. لقد أراد الإسبان أن يبحثوا طويلا في أسباب الهزيمة، وأراد المغاربة أن ينسوا بسرعة حلاوة الانتصار.
جمهورية الريف
ولأن أنوال ارتبطت في أذهان الكثيرين بجمهورية الريف، فإن البعض وجدوا للملك الراحل الحسن الثاني الكثير من الأعذار لأنه، وطوال فترة حكمه، لم يعط لتلك المعركة الخالدة ما تستحق من اهتمام رسمي وإعلامي، وبدا الذين يهللون لذكرى ذاك الانتصار كأنهم ضد الملكية ومع الجمهورية، وأصبح التلفزيون المغربي يخصص لها فقرة من بضع ثوان في التلفزيون الرسمي وكأنه يريد فقط أن يتخلص من الكلام عنها سريعا ويبعد عنه الحرج وينتهي يوم الذكرى بأسرع ما يمكن. ولو قيّض لبعض المسؤولين المغاربة أن يتصرفوا في الزمن لحذفوا بشك كامل يوم 21 يوليوز من السنة، لأنها تأتي لهم بذكرى تخلق لهم الكثير من الأوهام والكثير من المخاوف والتوجسات.
هؤلاء يتناسون أن بن عبد الكريم الخطابي، وخلال مقامه الطويل في المنفى بالقاهرة، ظل دوما يتحدث عن الاستقلال الحقيقي للمغرب، وظل يتحدث عن الشعب المغربي وليس عن شعب شمال المغرب فقط، وظل متابعا حتى يوم وفاته سنة 1963 لكل تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية في المغرب، وشغل نفسه بهموم وآمال وآلام كل الشعوب المقهورة في العالم، في الوقت الذي شغل خصومه أنفسهم بمصالحهم الخاصة وتدبير المؤامرات وترويج الشائعات.
الخوف من التاريخ الشخصي
أما الآخرون فإنهم يرون في خوف السياسيين من معركة أنوال خوفا من تاريخهم الشخصي. أي أن الذين وقفوا ضد أنوال سابقا ولاحقا إنما يفعلون ذلك من أجل عدم الكشف عن تاريخ خطير لم يكتب بعد، وأن ذلك الانتصار الكبير كان من الممكن أن يصنع تاريخا مختلفا تماما للمغرب والمغاربة، وأنه لو كانت “الجمهورية الريفية” حقيقة لكانت شيئا ضمن الأمر الواقع وسيقبل به الجميع مع مرور الأيام لأن هذه المنطقة ظلت على الدوام مختلفة في كل شيء ولم يكن المخزن يبسط سيطرته عليها بشكل كامل إلا بعد 1956.
وبما أن التاريخ يكتبه المنتصرون، فإن جمهورية محمد بن عبد الكريم الخطابي، أو الإمارة الحربية التي كان يريد من ورائها أن يحرر كل تراب المغرب، أصبحت جزءا من الماضي، وعلمها وعملتها وحدودها الجغرافية ودستورها ووزراؤها أصبحت تشبه حكايات الجدات قبل النوم. أما المسؤولون المغاربة، فإنهم بدؤوا يتصالحون شيئا فشيئا مع التاريخ أو مع بعضه، لكنه تصالح لا يزال يحتاج على مجهودات أكبر ونيات أكثر صدقا. وإذا قرر المغاربة يوما أن يتصالحوا مع تاريخ المنطقة فإنهم سيكونون مجبرين على نسيان أو تناسي الكثير من الأشياء.