محمد الطيبي، أو خيسوس ماريا ديلا أوليفا.. اسمان لشخص واحد قد لا تتكرر قصة حياته الفريدة مع أي شخص آخر، فالطفل الذي ولد في أربعينيات القرن الماضي بإحدى القرى الجبلية بمنطقة العرائش، سيجد نفسه وسط مغامرة تتلوها مغامرات، مؤلمة في أغلب الأحيان، ومضحكة في مناسبات قليلة، أما في مرات أخرى، فيصر صاحبها على تحويل مبكياتها إلى مضحكات..
حياة قاسية قضاها الطيبي منتقلا بين القرى الجبيلة، باحثا عن حنان لم يكد يعرفه يوما بعدما انفصل والداه مبكرا، ليدخل مرحلة توهان عاطفي اقتادته إلى حضن أسرة إسبانية، لتتدخل يوما ما يد “مخزنية” قاسية، ستزيد من الأمر تعقيدا وسترمي به دون أن يدري إلى الكنيسة وعوالم التنصير.. هي رحلة طويلة وغريبة لهذا الشخص وسط عالم المسيحية، والأغرب منها إصراره على أنه كان “راهبا مسلما”.
لكنه ما كاد يخرج من هاته المغامرة حتى دخل في مغامرة لا تقل غموضا، عندما انضم إلى الجيشين الإسباني والمغربي، وبينهما سيقوده حظه الغريب إلى وحشة المعتقل السري ورعب انقلاب الصخيرات، ملتقيا بأسماء لطالما تحدث عنها التاريخ الأمني والعسكري للمغرب، غير جازم في أي خانة تصنف…
الحلقة السابعة عشرة:
– إلى أين ستقرر التوجه بعدما عزمت الرحيل عن مدريد؟
كنت بطبيعة الحال لا أزال على علاقة بكنيسة الآباء البيض بمدريد، حيث أحضر معهم قداس الأحد أسبوعيا، خاصة وأن الناس الذين كنت أتعامل معهم كانوا شديدي التدين، وبعد أن تحسنت أحوالي المادية قليلا، استغليت معرفتي برجل كان يحضر للكنيسة، وكانت له علاقة من مجموعة دينية في فلورينسيا الإيطالية تسمى “لوس فوكولاريس”، حيث أقنعته بأنني أريد ان أدرس منهجهم، وعمل هو على تيسير مهمة اللحاق بهم.
– ألم يكن الأمر بمثابة عودة للمسيحية التي قلت إنك كنت تأمل الهروب منها؟
بحكم الواقع أنا لم افارق الكنيسة فعليا، فقد كنت ملزما بأن أظل أمام الناس مسيحيا، وأن أحظر قداس الأحد حتى لا أفقد عملي ومسكني، كما أن ما حدث لي في السفارة، كان بمثابتة إقفال باب الأمل في وجهي، فلم أجد من مهربة آخر إلا عبر الكنيسة من جديد، كنت آمل أن يساعدني أهلي من المغاربة للرجوع إلى موطني وحياتي الطبيعية، لكن بعد أن كان الشرطي وراء تركي لديني ووطني قبل سنوات، ستكرر السفارة السيناريو نفسه.. لقد عاملني المغاربة بقسوة، وفي لحظة غضب أحسست بالسخط على بني جلدتي، وأكرر تشبيه نفسي ببوعزيزي تونس، فقط هو أحرق نفسه وأنا اخترت الرحيل.
– لماذا اخترت إيطاليا بالضبط؟
هناك سبب واحد مباشر، هو أن أتباع طائفة “لوس فوكولاريس”، لم يكونوا يرتدون لباس الرهبان، وهذا كان بالنسبة لي نوعا الحرية، ومبدئيا كنت أريد تغيير الأجواء بأية طريقة.
– ما قصة توهانك في مارسيليا؟
لقد كنت متوجها إلى فلورينسا برا رفقة زميل برتغالي، وكنت محمل بهدية من رئيس الكنيسة بمدريد إلى رئيس الكنيسة التي أتوجه إليها، فتوقفنا في مارسيليا لتغيير القطار، وإلى أن تحين لحظة الانطلاق بدأت أتجول قليلا لاستكشاف مارسيليا دون مرافقة صديقي، وعندما حان الوقت اعتقدَ أنني سبقته للقطار فركبه، لكنني تأخرت إلى أن انطلق، فظللت عالقا، وكان الوقت ليلا، وأنا لا أعرف الفرنسية، كما لا أحمل إلا 3 فرنكات والهدية، فإذا بي أصادف تونسيين يتحدثون العربية، فعرضت عليهم اقتناء الهدية، فوافقوا ومنحوني 4 فرنكات، فأوقفت سيارة أجرة وطلبت من السائق نقلي إلى الكنيسة الإسبانية، بعدما تولى أحد التونسيين الترجمة له، وعندما وصلت إلى باب الكنيسة سلمت السائق النقود، فأخبرني أنه علي دفع المزيد، ولم يتفهم موقفي، فأشبعني شتما وحملني إلى باب الكنيسة، ولم ينجني من يديه إلا الراهب الذي سلمه باقي المبلغ ثم أدخلني حيث حكيت له الحكاية، فاتصل بالآباء البيض الذين تكفلوا باقتناء تذكرة جديدة لي، لكن هاته المرة حرصوا على إرفاقي براهب إلى أن ركبت القطار كي لا أتوه مجددا.
– تحدث لنا عن الحياة الجديدة التي انخرطت فيها بإيطاليا؟
انضممت إلى جماعة “لوس فوكولارينوس”، وكنت أدرس مذهبهم، كما كنت أعمل في شركة لصناعة خيوط الزرابي، لكن لم أكن أتقاضى مالا، لأنه كان ممنوعا على الطلبة، بل حتى من يحملون معهم أموالهم تنزع منهم، وفي المقابل كانوا يوفرون لنا الطعام والمبيت، وكنت أعيش في غرفة نظامها شبيه بالنظام العسكري.
وفي هذا المكان سأتعرف على أشخاص من جنسيات كثيرة، من أمريكا اللاتينية ومن إنجلترا والولايات المتحدة وسويسرا.. وسألتقي أيضا بشخص إيراني، وكانوا يتعلمون بفلورينسا ليذهبوا فيما بعد لممارسة التبشير في دول العالم، وأنا كنت قد رحلت معهم إلى تلمسان بالجزائر حيث كانوا يبشرون.
– متى كان ذلك؟
الحديث عن هذا سيأتي لاحقا، لأنني كنت قد وقعت في أزمة بعد خروجي من الجيش المغربي، فلن أجد مخرجا إلا باستغلال علاقاتي القديمة مع الرهبان.
– ما سبب رحيلك عن إيطاليا؟
لم استمر في إيطاليا سوى سبعة أشهر، حيث سأصل إلى سن الحادية والعشرين، وهو سن الرشد وقتها، وبصفتي مواطنا إسبانيا سيأتيني أمر بالتجنيد الإجباري، كون أن الإعفاء سقط عني بمجرد خروجي من كنيسة الآباء البيض، وحتى وجودي في كنيسة “لوس فوكولارينوس” ما كان ليعفيني، لأني رسميا لم أعد رجل دين وصرت مدنيا، كان ذلك في سنة 1967.
