في اليوم الثاني لعيد الفطر بدت الحركة غير عادية في موانئ طنجة. سيارات فارهة يركبها أشخاص يرتدون في الغالب نظارات سوداء، وكأنهم يخافون أن يتعرف عليهم أحد. نساء وقورات ووحيدات يركبن “الكات كات” و”المُدوّنة” ويختفين في سترة رأس رمينها رأسا بعد الوصول إلى طريفة للارتماء بين أحضان عشاق متلهفين. أسر بكاملها عليها آثار النعمة يبدو أفرادها متلهفين للوصول إلى مكان ما. نساء ورجال من طبقات اجتماعية راقية لم يطيقوا البقاء في المغرب ليوم واحد إضافي بعد العيد فقرروا أن يستمتعوا بشهر غشت بكامله في مكان ما.. مكان لا رائحة فيها للوطن ولا للكلام الفارغ عن السياحة الداخلية وخدمة الاقتصاد الوطني.
الباخرة التي تستعد للإقلاع تبدو غير مستعجلة بالمرة، بعكس صاحب سيارة المرسيديس السوداء، الذي يبدو وكأنه يتمنى لو يركب طائرة لكي يغادر بسرعة، ربما لأنه اشتاق إلى البحر، بحر إسبانيا، أو ربما يريد المغادرة بسرعة حتى لا يتعرف عليه أحد. إنه موظف عادي بإحدى مصالح طنجة، وهو سيسافر بسيارة مرسيديس سوداء مرقمة في الرباط.. سيارة لا يستعملها أبدا في الأيام العادية ويتركها حتى ستمتع بها بعيدا عن أعين الفضوليين.
امرأة أخرى تخرج في نفس الباخرة، إنها تملك ودائع وحسابات وعقارات في مارْبيا الإسبانية، وقد يبدو هذا طبيعيا لو أن راتبها كان يزيد عن الستة آلاف درهم شهريا، لكن الحقيقة المُرة أنها موظفة بسيطة، لكنها تملك الكثير من مفاتيح شؤون العقار والرخص. إنها مفاتيح تشبه مفاتيح كهف علي بابا.
مثل ذلك الرجل وهذه المرأة كثيرون من الذين غادروا في اتجاه إسبانيا، ومثلهم آخرون غادروا مباشرة بعد رمضان عبر الكثير من مطارات البلاد، وكل في فلك يسبحون، هناك من يفضلون إسبانيا القريبة، بسحر شواطئها ولياليها وجعتها، وآخرون رحلوا نحو باريس أو لندن أو إيطاليا أو اليونان، والأكثر مالا وعددا يرحلون نحو الجزر الحالمة في قلب البحار والمحيطات، وهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
العطلة في المغرب طبقات وطبقات. المغاربة المسحوقون يتعاركون على قطعة رمل وسخة عند مصب الوديان الحارة في شواطئ ضيقة، والآخرون يتسكعون في أبهى شواطئ العالم، وكذلك فضلنا بعضكم على بعض في الرزق والرحلات.
الجنوب الإسباني هو الأقرب وهو أفضل مكان لطبقات اجتماعية مغربية خرجت فجأة من الفقر المدقع إلى الغنى المطلق. في مدن مثل مارْبيا وسان روكي ومالقة وفوينخيرولا وميخاس وبني قاسم وبينالمادينا وغيرها، هناك شعب مغربي آخر غير الشعب المغربي الذي بقي في المغرب خلال الصيف. في كل مكان من هذه المناطق يمكن أن تعثر على مغربي من بين خمسة أجانب، وأحيانا تعثر على عشرة مغاربة دفعة واحدة من دون رؤية أجنبي واحد. هنا يفضل كثيرون رمي أموالهم التي جمعوها عن حق أو غير حق، وهنا يحس كثيرون أن العطلة في المغرب مجرد وهم، فالصيف في المغرب نكد في نكد، وهنا العطلة فيها شفاء للناس.
الجنوب الإسباني، على امتداد الكُوسْتا ديل صُول، يجمع فسيفساء غريبة من المغاربة في كل أوقات السنة، لكنه خلال شهر غشت يتحول إلى “مملكة مغربية” أخرى، وقريبا سيرفع المغاربة هنا علم بلادهم الأحمر وبداخله نجمة خماسية خضراء وبداخل النجمة ورقة مالية زرقاء.
وجود المغاربة في الكُوسْتا ديل صُول أصل له جذور. فعندما كانت طفرة الحشيش في أوجها جاء إليها مهربون كثيرون واشتروا شققا وعقارات ومطاعم وكل شيء. بعد ذلك بدأ موظفون ومسؤولون مغاربة يأتون إلى نفس المكان ويفعلون الشيء نفسه. قيمة الموظف أو المسؤول ليست في راتبه، بل في قيمة ما اقتسمه من ثروة مع تجار الحشيش، لأن تاجر الحشيش لا بد له من مسؤول يحميه أو يُبيّض سيرته، لذلك من الطبيعي أن تصبح أموال الحشيش دُولة بينهم.
في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، وعندما بدأت تلك الحملة الغريبة ضد التهريب وتجارة الحشيش، جاء إلى منطقة الكُوسْتا ديل صُول جيش من الموظفين والمسؤولين المغاربة ومهربي الحشيش. تجار الحشيش هربوا من الملاحقة، وآخرون تبعوهم لأنهم تورطوا معهم بشكل أو بآخر، وفي المرحلة الثالثة جاء جيش من السماسرة للتفاوض. كان العرض موحدا: كم تدفع لكي تعود إلى المغرب بريئا براءة الذئب من عشبة الحشيش. هناك من دفع وعاد، وعناك من دفع ووقع، وهناك من بقي ينتظر… وما بدّلوا تبديلا.
في الشتاء يبدو المغرب وكأنه قطعة واحدة.. وفي الصيف تلعب به الحرارة فيتحلل ويبدو على حقيقته.. هذا ليس مغربا واحدا.. إنه مغرب ومغربان.. مغرب بطبقات كثيرة متفاوتة حد القرف.. مغرب مفتوح على كل الاحتمالات ومقبل على كل أنواع المخاطر.
