في قاعة حفلات بإسرائيل، وقف مطرب مغربي معروف في مجال الطرب الأندلسي وهو يرتدي جلبابا مغربيا أحمر قانيا، بلون الدم، وخلفه فرقته الموسيقية المخلوطة بين مغاربة وإسرائيليين، وصار يشدو موجها كلامه إلى جمع غفير من الإسرائيليين الحاضرين: مجْمعكم يا لْحْباب كلّو رْبح.. واللي خالطْكُم يربح».. ويبدو أن إسرائيليا فهمه بطريقة مباشرة فأرسل إليه حفنة من أوراق الشّيكْل، على طريقة «الغْرامة» المغربية، فاستمر صاحبنا الرائد في الطرب الأندلسي يشدو وهو يلتفت بلهفة إلى كومة أوراق الشّيكْل ويتمنى المزيد منها.
مغنٍّ مغربي آخر، وهو أيضا رائد في هذا الطرب الجميل، يقف على خشبة المسرح الكبير في تل أبيب، ويشدو بكلمات الحب والهيام.. كلمات أخرجها عن سياقها الإنساني وجعلها بينه وبين جمهوره الإسرائيلي؛ وبين كل كلمة حب وحب يضع يده على قلبه ويوجه رسالة غرام إلى جمهوره.
إنهما نموذجان فقط من «رحلات السلام» التي قام بها مغاربة من كل الأصناف نحو إسرائيل، وهي رحلات كانت قد دخلت في مرحلة سابقة مرحلة «الجْدْبة»، إلى درجة أننا وضعنا أيدينا على قلوبنا وقلنا إن هذا المغرب قد لا يبقى فيه مواطن واحد لن يزور إسرائيل.
المغاربة الذين ذهبوا إلى إسرائيل فعلوا ذلك لشيئين: إما لجلب المال أو لمنفعة سياسية بناء على أوامر معينة؛ أما ما عدا ذلك فصفر على الشمال. من بين الذين ذهبوا إلى إسرائيل هناك من تبجح بذلك إلى درجة الوقاحة، وهناك من سترها في قلبه وتمنى أن تبقى جريمته سرا بينه وبين ربه، لكن هيهات أن تستتر جريمة مثل هاته، فعلماء الجريمة يقولون إن من بين أهم أسباب انكشاف المجرم أنه يحوم حول مكان الجريمة، وكذلك كان شأن المغاربة الذين ذهبوا مرة نحو إسرائيل، إذ استمروا يفعلون ذلك دائما، فالشّيكْل له حلاوة ما بعدها حلاوة.
المغاربة الذين كشفوا علنا زياراتهم لإسرائيل قالوا إنهم فعلوا ذلك من أجل السلام وخدمة لقضايا الشعب الفلسطيني، وكأن الشعب الفلسطيني الذي يضحي منذ أزيد من سبعين عاما لم يكون ينتظر سوى هذه الحفنة من الطماعين المتخاذلين لكي تتحقق مطالبه العادلة.
هناك آخرون، في زمن الحسن الثاني، خصوصا من بين السياسيين، لم يكونوا يتورعون في مجالسهم الخاصة عن قول إن الملك هو من أمرهم بزيارة إسرائيل، وعادة ما يستعملون عبارة القدس عوض تل أبيب أو إسرائيل، فيمسحون كل ذنوبهم في غيرهم، مع أن الشجاعة تقتضي الرفض حتى لو كان الملك الراحل من أمرهم فعلا بذلك، كما تقتضي أيضا الاعتراف بالجريمة دون نسبها إلى آخرين.
كل المغاربة الذين زاروا إسرائيل قالوا إنهم فعلوا ذلك من أجل السلام ومصلحة الفلسطينيين، مع أنهم لا يعرفون صنع السلام حتى مع زوجاتهم، وهم يعودون من تل أبيب بجيوب ممتلئة بالشيكل. هؤلاء لا نعرف بم يحسون اليوم وهم يرون إسرائيل، التي تغنوا بحبها، تصنع «كفتة» دموية بأجساد مئات الأطفال الفلسطينيين، في مجزرة رهيبة، لو أن هولاكو وهتلر وباقي عتاة الحروب نهضوا من قبورهم، لأمسكوا برؤوسهم من هولها ولشتموا إسرائيل سرا وعلانية.
المغاربة الذين ذهبوا إلى إسرائيل فعلوا ذلك إما من باب العمالة والخيانة، أو فقط طاعة للأوامر، أو استجابة للرغبة المحمومة في جلب حفنة من المال القذر، ومع ذلك كلهم يقولون إنهم فعلوا ذلك من أجل السلام، بينما كان الأجدى بهم أن يخدموا السلام بطريقة أخرى مختلفة تماما.. كان بإمكانهم أن يذهبوا إلى أدغال إفريقيا أو إلى غابات الأمازون لكي يقنعوا التماسيح والأفاعي والأسود بالتوقف عن القتل، أما إسرائيل فمن غير الممكن أن تتوقف يوما عن سفك الدم البريء.
اليوم تقوم إسرائيل بمذابح غير مسبوقة في تاريخ البشرية، إنها تتصرف وكأن هذا العالم عاد إلى زمن الظلمات، لذلك كنا نتوقع، أو كنا نتمنى، أن يخرج أولئك المغاربة الذين زاروا إسرائيل لكي يعتذروا إلى المغاربة ويقولوا إنهم كانوا مخطئين وواهمين وأغبياء، ثم يطلبوا الصفح من المغاربة ومن الفلسطينيين ومن الإنسانية جمعاء، لأن من يزور كيانا متوحشا وجبانا مثل الكيان الإسرائيلي لا بد أن يندم يوما ويعتذر. لكن يبدو أن الواهمين الحقيقيين هم نحن، لأن زوار إسرائيل يشبهون الجرذان التي تختبئ في جحورها نهارا، ثم تخرج للعبث في الظلام… ولا تعتذر أبدا.
عشاق إسرائيل أو جرذان إسرائيل، بعبارة أصح، سيظلون في جحورهم لوقت ما وسينتظرون أوقاتا أخرى.. سينتظرون إلى أن ينسى الناس ما يجري، والناس بطبعهم نساؤون، وعند ذاك ستخرج الجرذان من جحورها مرة أخرى نحو وجهتها المعروفة، نحو إسرائيل، وسيقولون مرة أخرى إنهم إنما يخدمون السلام.