صور الأدب والفن السلطان سليمان القانوني على أنه زير نساء غارق في ملذاته، وفضلا عن ذلك، فقد نسبا إليه قسوة القلب وحدة الطبع وسوء الخلق وغير ذلك من الأوصاف التي يقبلها المتلقي بسهولة حين يطلع على حادثة قتله لابنه، التي تعد مدخلا لتبرير كل فرية تلصق به بعد ذلك. ليس هذا السلطان العظيم في واقع الأمر غير بشر يصيب ويخطئ كما يصيب كل الناس ويخطئون، والأمانة التاريخية تفرض على من يتناول سير الأعلام أن يتجرد من عواطفه وأن ينصف في ذكر محاسن الأشخاص المستهدفين بالبحث والدراسة مهما كانت سلبياتهم.
لقد وجد السلطان سليمان نفسه مرغما على قتل ابنه، بعد أن اجتهدت زوجته روكسلان والصدر الأعظم «رستم باشا» في حبك مؤامرة ضد الابن مصطفى، فصوراه على أنه خطر داهم سيزعزع أركان البلاد وسيقتل والده ليجلس مكانه على رأس هرم الدولة. إن مسؤولية السلطان قائمة في عدم التحري بدقة في الموضوع وهو المشهور بأناته ودقته، ولكن إسقاطه وإسقاط كل فضائله لهذا السبب ليس من الإنصاف في شيء. فإن عدت هذه من زلاته التي نفخ فيها خصومه، فله من الحسنات ما لا يجوز بحال أن يُتَغاضى عنها. يقول المؤرخ علي الصلابي: «السلطان سليمان القانوني قضى 46 عاما على قمة السلطة في دولة الخلافة العثمانية التي بلغت خلال حكمه قمة درجات القوة والسلطان، واتسعت أرجاؤها على نحو لم تشهده من قبل، وبسطت سلطانها على كثير من دول العالم في قاراته الثلاث القديمة وامتدت هيبتها فشملت العالم كله وصارت سيدة العالم، تخطب ودها الدول والممالك وارتقت فيها النظم والقوانين التي تسير الحياة في دقة ونظام ودون أن تخالف الشريعة الإسلامية التي حرص آل عثمان على احترامها والالتزام بها في كل أرجاء دولتهم».
إن أيادي سليمان القانوني على الخلافة العثمانية لا تعد ولا تحصى، ففي مجال التوسع الجغرافي قاد سلسلة من الفتوحات التي أفضت إلى امتداد دولته في ثلاث قارات، فقد ضم تونس وطرابلس وطهر الجزيرة العربية من البرتغاليين وضم القرم إلى سلطانه ووصلت جيوشه إلى فيينا وبوخارست، كما ضم بلغراد وبلاد المجر. ولم يكن جانب الفتوحات غير جانب واحد من الجوانب العديدة التي حظيت بعناية السلطان سليمان القانوني واهتمامه، فقد أولى أهمية خاصة للعدل فكان يدقق في صغير القضايا وكبيرها، حتى أنه رفعت إليه في مرة شكاية حول تكاثر النمل حول بعض الأشجار المحاذية لأحد المساجد فكتب أصحاب الشكاية يسألونه في أن يسمح لهم بقتل النمل، فتردد في الأمر وسألهم إن كانوا يستطيعون إبعاد النمل بوضع الجير حول الأشجار فأخبروه أن الجير يقتل النمل، فاستفتى أحد العلماء فخوفه من مغبة الأمر، فأحجم عن إصدار أمره بإيذائه. وهذه القصة توضح لنا بجلاء أن سليمان كان يعطف على النمل وهو من الحشرات، فكيف يكون حاله مع البشر ؟ ولقد تكون هنالك ظروف كثيرة لا نعلمها دفعته لقتل ولده، مما يحتسب اليوم في ذمة التاريخ، لكن المرجح من استقراء سيرة حياة الرجل أنه لم يكن متسرعا في أحكامه ولعله أكره على فعلته تلك، فما أكثر أن يكون المرء مضطرا إلى دفع الأذى عن نفسه بإلحاق الأذى بغيره.
ازدهرت العلوم والفنون والآداب في عهد سليمان القانوني، كما ازدهرت في عهده العمارة وأعمال البناء، إذ شيد القناطر والمساجد والموانئ الضخمة في كل أرجاء الدولة في مكة وبغداد ودمشق وغيرها من المدن، وكان له فضل كبير في بناء الموانئ وتشييد الأساطيل البحرية، التي سيطرت على حوض البحر الأبيض المتوسط، غير أن المجال الذي بز فيه أقرانه، وحاز فيه قصب السبق على كل أسلافه من آل عثمان، هو مجال الإدارة والقانون، وبه سيلقب، إذ كان حريصا على تطبيق القوانين التي اجتهد في أن تكون شاملة لمختلف مناحي حياة الناس (الجانب الجنائي والجانب التجاري والجانب العقاري)، فكان قانونه المعروف بـ»قانون نامه سلطان سليمان» هو المعمول به في الدولة العثمانية طيلة ثلاثمائة عام.
امتد العمر بالسلطان سليمان إلى أن بلغ أربعا وسبعين عاما وأصيب في آخر أيام حياته بداء النقرس، غير أن ذلك لم يثنه عن قيادة المعارك ضد خصومه بنفسه، ففي عام 1566م خرج على رأس الجيش رغم أنه لم يكن قادرا على ركوب الخيل لكنه تحامل على نفسه وقصد مدينة سيكتوار المجرية الحصينة، فحاصرها خمسة أشهر كاملة إلى أن فتحها فقال عندئذ لمقربيه: «الآن طاب الموت»، وفي 5 سبتمبر 1566م أسلم الروح لباريها فرثاه العلامة «أبو السعود» بقصيدة من عيون الشعر مما جاء فيها:
أصوت صاعقة أم نفخة الصور فالأرض قد ملئت من نقر ناقور
أصاب منها الورى دهياء داهية وذاق منها البرايا صعقة الطور.
عن جريدة “المساء”