انقضت بضعة أسابيع على توقف هولوكوست غزة، وبدا أن الناس نسوا أو تناسوا ما جرى، لكنهم بالتأكيد ينتظرون مجازر أخرى قد تأتي في يوم ما من سنة ما.
إسرائيل بلد يشبه مصاص الدماء “دراغولا”، وهذا الكائن يحتاج باستمرار إلى امتصاص كميات كبيرة من الدماء حتى يبقى على قيد الحياة، والغريب أن الدراغولا هو كائن بين الموت والحياة، مثله مثل إسرائيل تماما، التي لو كانت تدرك أنها كائن طبيعي وسيبقى على قيد الحياة لما تصرفت بهذه الطريقة الموغلة في الوحشية.
اليوم يبدو أن العالم غسل يديه من جرائم إسرائيل التي استمرت على مدى شهرين وقتلت ثلاثة آلاف مدني، ربعهم من الأطفال. لا شيء يبرع فيه العالم أكثر من إخفاء جرائم إسرائيل وتبييض سيرتها. ففي الوقت الذي لا تزال فيه إسرائيل تبكي وتتباكي وتجبر العالم على تذكر المعسكرات النازية في الحرب العالمية الثانية، فإنها تجبر العالم على نسيان مجازرها في غزة بضعة أيام على وقوعها. هكذا يجب على الناس أن يتذكروا جرائم لم يروها وقعت قبل 80 عاما، لمجرد أن إسرائيل تريد ذلك، ويجب كذلك على الناس أن ينسوا مجازر حدثت قبل أيام، لمجرد أن إسرائيل تريد ذلك.
لكن المجزرة الإسرائيلية الأخيرة في غزة كشفت أشياء كثيرة، أشياء تثبت أن إسرائيل صارت كيانا متعبا، لقد تعب العالم من إسرائيل لأن إسرائيل لم تتعب من الذبح، لكن هذا العالم لا يزال مستعدا لممارسة كثير من النفاق في المراحل المقبلة، لكن هذا النفاق لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية.
منذ أن بدأت إسرائيل مجازرها قبل أزيد من 70 عاما، أي منذ مجزرة “دير ياسين” فما فوق، فإن العالم تواطأ معها بشكل رهيب. لقد ظلت إسرائيل تفعل ما تشاء والعالم يصفق لها ويبكي لأنها هي الضحية. إنه أمر نادر في تاريخ البشرية أن يتعاطف العالم مع القاتل وليس مع القتيل، وهذا ما حدث طويلا مع إسرائيل.
خلال كل العقود الماضية كانت إسرائيل تذبح وتسفك الدماء بينما الإعلام العالمي يصورها كضحية مسكينة للإرهاب. وفي سينما هوليود تم تزوير تاريخ العالم بأكمله من أجل عيون إسرائيل، وتم اختلاق الكثير من الأكاذيب الفاقعة من أجل إرضاء تل أبيب، وتم وضع البشرية كلها على كفة وإسرائيل على كفة أخرى إرضاء لأنانية إسرائيل، وعندما احتج فنانون وسينمائيون، وهم يُعدّون على روس الأصابع، فإنه جرى تهديدهم بمحو أسمائهم من جذورها من ميدان السينما، فصمتوا.
اليوم، تبدو الأشياء وكأنها تتغير، صحيح أن التغيير بسيط، لكنه يكبر ويكبر مع كل مجزرة. ففي الأيام الماضية فوجئت إسرائيل نفسها بأن النفاق العالمي الذي تعتمد عليه في ارتكاب المجازر لم يعد كما كان، لذلك ستفكر مستقبلا أكثر من مرة قبل ارتكاب مجازر جديدة.
الغرب، الذي كان في الماضي كتلة متراصة مع إسرائيل صار الآن يتململ، والمظاهرات الخجولة التي كانت تخرج لإدانة إسرائيل في عواصم أوربا صارت اليوم صريحة وتضم أمواج بشرية. والفنانون والسينمائيون والإعلاميون الذين كانوا لا يجرؤون على كلمة عتاب واحدة في حق إسرائيل صاروا اليوم يسخرون من جبروتها ويتقززون من قدرتها على ذبح كل هذا العدد من الأطفال.
اليوم، وفي الوقت الذي تغرق البلدان العربية في مستنقعات الخيانة ويتعاون زعماؤها مباشرة مع تل أبيب، تستطيع بلدان كثيرة غير عربية أن تصف إسرائيل بأنها دولة إرهابية وتقطع علاقاتها معها مثلما فعلت بلدان من أمريكا اللاتينية. هذا كان عصيا على التصديق في الماضي، لكنه صار ممكنا اليوم.
إسرائيل تدرك أنها بلد هش، فهي لم تنتصر في أي حرب حقيقية. ففي سنة 1948 واجهت بضعة مقاتلين فلسطينيين وعرب غير مدربين ويحاربون ببنادق فاسدة زودتهم بها أنظمة عربية فاسدة وتحت الاستعمار المباشر. وفي 1967 حاربت جيشا من الجنرالات المحششين والأنظمة العربية الخائنة. وفي سنة 1973 كادت تنهزم عندما واجهت بعض الجدية في الحرب فاضطرت للتفاوض.
وفي مواجهتها للمقاومة تلقت إسرائيل نكسات لا تحصى، ولولا الخيانة المستفحلة في صفوف العرب لما حققت إسرائيل أي إنجاز، وحتى تصفيتها لرموز المقاومة الفلسطينيين والعرب تمت بتواطؤ كبير مع جواسيسي فلسطينيين وعرب، وفي مذكرات كتبها مسؤولون صهاينة هناك اعتراف بصريح بأن تل أبيب كانت ولا تزال تتوفر على عملاء من أعلى المناصب القيادية في العالم العربي، ولولاهم لما حققت أبدا ما كانت تحلم به.
إسرائيل وحش نطعمه ونسقيه ثم نخاف منه. هذا شيء غريب.. لكنه لن يستمر إلى الأبد.