حين تولّى الجنرال فرانكو الحكم في الثلاثينات لم يرق الأمر لسكان كتالونيا، خصوصاً العاصمة برشلونة، فالعداوة بين المدريديين والبرشلونيين القديمة العهد استشرت أيام الدكتاتور، بعد سياسة التنكيل بأهل المقاطعة الرافضة لإلغاء الهوية والخضوع للملكيين في العاصمة الإسبانية.
عدّ فرانكو كتالونيا وأهلها خارجين عن القانون، ووصف سكان برشلونة بمأوى المجرمين، خصوصاً أنّهم تمردوا على حكمه الجائر الاستبدادي، فكان أن نكّل بهم وقسا عليهم، ولعلّ في إعدام رئيس برشلونة، جوسيب سانيول، على يد جيش فرانكو عام 1936 وجه من الإمعان في الترهيب تجاه هذه المقاطعة.
قبل ذلك وفي ظل حكم الديكتاتور الآخر ميغيل بريمو دي ريفيرا كانت ممارسات محو الثقافة الكتالونية بأشكالها كافة، من لغة وسياسة وغيرها، عملية ممنهجة ضد الإقليم الذي غالباً ما تمايز عن العاصمة مدريد رمز الوطنية الإسبانية، سياسياً بالنهج والسلوك.
ترافق نمو هذه الممارسات مع نشأة نادي برشلونة المبصر للنور عام 1899 كخامس ناد في إسبانيا، وتبلورت حالته حتى أمسى رمزاً للمقاطعة وعنفوانها. فبُعيد إنشائه بسنوات باتت اللغة الكتالونية المعتمدة رسمياً من قبل المشرفين عليه إلى كون شعاره يعكس أبعاده بوضوح “أكثر من مجرّد نادٍ”.
تنامي النادي وقدرته على تحقيق الانتصارات والألقاب على حساب ريال مدريد المؤسس عام 1902، والحاظي وقتها بكل الدعم الرسمي من السلطات، جعله على رأس اللائحة المستهدفة من قبل سياسة فرانكو، وهو ما أجج مشاعر الحقد والكراهية بين رمزيْ إسبانيا وكتالونيا، وجعل من كل مباراة تجمعهما معركة سياسية وجودية في إطار رياضي تنافسي امتدّ من وقتها لحينه.
البعد السياسي والكياني للناديين أكسبهما مع الوقت رداء التفوّق والعنجهية الوجودية، فأخذ كل من الطرفين يسخى على ناديه لتحقيق التفوّق المحلي، ومع الوقت شرع كل منهما يتبع سياسة التعزيز بالنجوم غير الإسبان لتدعيم الريادة والقوّة، وباتت شهرتهما تتعدى النطاق الجغرافي الإسباني لتمتد مع الوقت عالمياً وتزداد على نحو مطرد مع تطوّر الإعلام.
في لغة الرياضة سمّى الكثيرون مبارة الفريقين بالدربي، إلا أن مصطلح “دربي” الإنكليزي المنشأ لا يعكس بدقة حالة الوضع، كونه يعني غالباً مباراة قمة بين أفضل فريقين في مدينة ما، وهذه ليست حال ريال وبرشلونة.
كثرت العبر والمصطلحات التي استخدمها الإعلاميون والصحفيون لتوصيف المنازلة “الكتالونية – المدريدية”، من معركة إلى حرب إلى مباراة العصر أو القرن وغيرها، إلا أنّ عبارة واحدة ظهرت بداية القرن الحالي صبغت مواجهات الفريقين، حتى عرف كل احتكاك تاريخي بينهما منذ أول لقاء بـ”الكلاسيكو”.
ويعد هذا المصطلح دخيلاً على الإسبان، إنما بات الأشهر لأكبر وأعرق مباراة كرة قدم تجمع فريقي كرة، وهو أطلق من الصحافة اللاتينية مستوحى من الدربي الأميركي الجنوبي الأقوى “ريفر بلايت وبوكا”، أحد أشهر صدامات كرة القدم المليئة تاريخياً بالحوادث الدموية والمعروفة بـ”سوبر كلاسيكو”.
رغم أن المصطلح استعير على نحو كبير لكل قمة كروية على مستوى بلد ما حول العالم، إلا أنّه بمجرّد سماعنا كلمة كلاسيكو ندرك أن إسبانيا على موعد مع إحياء الانقسام “السياسي- الرياضي” واستحضار الماضي، فيما العالم على موعده السنوي مع انشطار مماثل على خلفيات متنوعة لا تدنو من الإشكاليات “الكتالونية- المدريدية” بشيء.
إنها تسعون دقيقة تفرّق مئات الملايين، وفي كل طرف نرى الملمّ والخبير والمتعصّب -غالباً لعلاقة سطحيّة مع الكرة- والوافد حبّاً بنجم أو مدرّب أو غير ذلك، وحدهم ذوّاقة الكرة ممن يجلسون في الوسط يستمتعون بأرقى مستوى كروي في كرة القدم قد يتسنى لنا رؤيته في مباراة واحدة، أياً كانت العاصمة التي ستشتعل.
