طنجة من بين أقدم مدن المغرب والعالم، كما تتميز بكونها نقطة التقاء بين البحر الأبيض المتوسط من جهة وبين القارة الأوربية والقارة الإفريقية من جهة أخرى. وموقعها الاستراتيجي الهام مكنها من الاستئثار باهتمام الإنسان، مما جعلها محطة اتصال للعديد من الحضارات، وخير شاهد على ذلك البقايا الأثرية المتناثرة بطنجة هنا وهناك، والتي تعود لحضارات ما قبل التاريخ، كالفينيقيين والبونيقيين والرومانيين.
مدينة طنجة عرفت أيضا، في الحقبة الإسلامية، ازدهارا وحيوية كبيرين، وخصوصا مع انطلاق الفتوحات الإسلامية نحو الأندلس على يد طارق بن زياد سنة 711 م، ثم من طرف المرابطين والموحدين.
بعد هذه المرحلة بدأت رياح الاحتلال الأجنبي تعصف بطنجة، ولاسيما من طرف الإسبان والبرتغاليين والإنجليز منذ 1471 م إلى 1684 م، وتبقى الأبراج والكنائس والأسوار الموجودة بالمدينة القديمة بمثابة بصمات تؤرخ لهذا الوجود الأجنبي بمدينة البوغاز.
إلا أن أهم مرحلة ثقافية وعمرانية في تاريخ طنجة الوسيط والحديث هي فترة سلاطين الدولة العلوية، خصوصا السلطان المولى إسماعيل والسلطان سيدي محمد بن عبد الله . وفي أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين بدأت طنجة تصطبغ بالصبغة الدولية، ولاسيما في فترة الاحتلال الفرنسي والإسباني للمغرب، حيث أنه، وبموجب بروتوكول طنجة لسنة 1925م، تم توقيع اتفاقية بين فرنسا وإسبانيا وإنجلترا لجعل طنجة منطقة دولية، وفي نفس الوقت تم إنشاء هيئة تشريعية دولية لحكم المدينة.
من خلال هذا السرد المختصر لتاريخ طنجة، نود أن نبرز أهمية التنوع الحضاري الذي عرفته هذه المدينة في إكسابها “الشخصية التاريخية” التي ميزتها عن باقي المدن المغربية، إلا أنها ظلت محافظة على هويتها وثقافتها رغم انفتاحها على العالم، وما تسميتها بالمدينة المحافظة إلا دليل على مقاومتها لكل أشكال التأثير الخارجي – الأوربي – وبالتالي ظلت متمسكة بدينها وعاداتها ولغتها.
وعلى ذكر اللغة، لابد أن نثير في هذا الموضع نقطة في غاية الأهمية، وهي أنه رغم ما عرفته عروس الشمال من تنوع لغوي بفعل طابعها الدولي، إلا أنها برهنت عن مدى تشبثها باللغة الأم، اللغة العربية، وهذا راجع لدور فقهائها وكتابها وعلمائها الأجلاء الذين دونوا التاريخ الفكري والأدبي والفقهي لهذه المدينة باللغة العربية، ومن بينهم أسرة آل الصديق، وسيدي عبد الله بن عبد الصادق التمسماني، والفقيه محمد المكي الناصري، والعلامة عبد الله كنون، والعلامة محمد السكيرج، وآخرون كثيرون.
ومن أهم المؤرخين المحدثين الذين اهتموا في كتاباتهم بجهة الشمال عموما، وطنجة على وجه الخصوص، نجد المؤرخ المغربي عبد العزيز خلوق التمسماني، رحمه الله، الذي أبرز دور المدينة في حصول المغرب على استقلاله ودعم رجال طنجة لحركة التحرير الوطني، حيث قام بإصدار مجلة “الطنجيون”.
وفي هذا الصدد يجب علينا استحضار الكاتب الطنجي محمد شكري، الذي أبرز محاسن طنجة وأخرجها إلى العالمية من خلال كتاباته ومؤلفاته التي تُرجمت إلى عشرات اللغات.
في هذا السياق لا ننسى دور الزوايا والتعليم الأصيل بطنجة ونواحيها في تثبيت اللغة العربية بتربة هذه المدينة من خلال الإقبال الهائل على هذا النوع من التعليم الذي عرف انتشارا واسعا لحلقاته ومراكزه. فما من قرية من قراها، صغرت أو كبرت، إلا وكان مسجدها يعج بقراء القرآن.
كما أن “مدينة العبور” اتخذها العديد من الأولياء والصلحاء مقرا لهم فأسسوا بها مجموعة من الزوايا التي من خلالها ساهموا في تهذيب وتثقيف ساكنتها، وفي نفس الوقت ترسيخ الطابع المحافظ للمدينة. وفي هذا المقام كذلك نستحضر بعض أسماء الزوايا التي أثثت فضاء عروس الشمال ونواحيها، كالزاوية الكتانية وزاوية سيدي بن داوود والزاوية الحراقية وزاوية بنعجيبة والزاوية القادرية والزاوية الصديقية والزاوية التيجانية والزاوية الناصرية وضريح سيدي بوعراقية والزاوية البودشيشية وغيرها كثير.
فمهما كتبنا ومهما قلنا في حق طنجة فلن نوفيها حقها.