ليست هذه المذكرات من أجل الإثارة، بل للعبرة، وفيها دروس كثيرة، سواء للمسؤولين الذين همشوا منطقة الشمال وجعلوها مجرد بقرة حلوب، أو بالنسبة للذين دخلوا مغامرة تهريب الحشيش معتقدين أن ذلك هو الخلاص، بينما هي مصيدة حقيقية.
هذا الحوار مع مهرب سابق، تخلى اليوم نهائيا عن تلك “المهنة” بعدما عانى من أهوالها الكثير.
هو اليوم يتأمل ماضيه وذكرياته ويوجه نصيحة للآخرين مفادها أن الحشيش لا يستفيد منه سوى الكبار، وحتى أولئك الكبار لا يفلتون من المقصلة عندما تقتضي الظروف ذلك.
الحلقة الأولى
حوار: قريتنا لا توجد بها حتى مدرسة.. لذلك توجهت لتهريب السلع في سبتة
قبل أن تقوم بأول عملية تهريب في حياتك، كيف عشت طفولتك؟
في قريتنا لم تكن توجد مدرسة، ولا توجد مرافق من أي نوع، ولا توجد فضاءات مخصصة للأطفال أو الشباب. لم يكن في قريتنا أشخاص يدرسون لأن الدولة لم تبن لنا مدارس. لم يكن في قريتنا أي شيء بالمرة، لا مدرسة ولا معمل ولا أي شيء، لذلك بدأت أرعى الأغنام وأنا في سن الثامنة. الأغنام هي في ملك الأسرة مثلما هو الحال بالنسبة لسكان المنطقة. كانت هي مورد العيش الوحيد لنا، بالإضافة إلى نشاط زراعي معيشي بسيط.
بقيت أمارس الرعي من سن الثامنة إلى سن الخامسة عشرة. إنها مرحلة امتدت قرابة أربع سنوات، وكان من الضروري أن أكون في مدرسة مثل باقي المواطنين، لكننا كنا منسيين ولا أحد اهتم بنا أو التفت إلينا.
خلال ممارستي مهمة رعي الأغنام لم أكن أستفيد من أي دخل مادي، وكنت أكبر شيئا فشيئا وأطمح لما هو أفضل، ووقتها كنا نسمع عن شباب يكبروننا سنا كانوا يتوجهون نحو قرية بليونش، على الحدود مع مدينة سبتة، ويربحون أموالا جيدة من خلال حمل المواد المهربة من سبتة إلى بليونيش. كنا أيضا نسمع عن أشخاص استطاعوا أن يراكموا أموالا كثيرة بفضل تهريب الحشيش. كان هؤلاء بالنسبة إلينا، ونحن أطفال ومراهقين، بمثابة أشخاص ناجحين ومتفوقين في حياتهم. كنا نريد أن نصبح مثلهم.
في ذلك الوقت، وبالضبط سنة 1987 أو 1988، لم يكن البحر قد عرف ذلك النشاط المكثف للتهريب، سواء تهريب الحشيش أو الهجرة السرية. وكنا فقط نسمع عن أشخاص قليلين جدا صنعوا ثروتهم من تهريب المخدرات عبر قوارب في البحر، مثل الدرقاوي أو الديب، وهما معا اعتقلا وحوكما في الحملة الشهيرة ضد التهريب سنة 1996، وسجنا لحوالي عشر سنوات.
في حوالي الخامسة عشرة من عمري قررت أن أخوض غمار التهريب، لأني أعرف أشخاصا كثيرين من منطقتي تغيرت أحوالهم المادية بفضل ذلك، فذهبت إلى قرية بلونيش، وهناك بدأت أمارس تهريب السلع حيث ندخل سبتة لحمل البضائع على ظهورنا ونعود بها إلى المغرب، ومقابل ذلك نحصل على 50 درهما عن كل عملية.

كم عملية تقومون بها كل يوم؟
كنا نقوم بحوالي 10 عمليات “تحميل” كل يوم، وكنا نشتغل لأشخاص معروفين يحتكرون تهريب السلع في المنطقة. مقابل هذا العمل صرت أحصل على حوالي 500 درهم يوميا، وهو مبلغ كبير بالنسبة لي وأنا وقتها في سن الخامسة عشرة.
كنا وقتها نحمل كل أشكال السلع المهربة، ونحمل ما مقداره 50 كيلوغراما على ظهورنا، بدءا بالمواد الغذائية وانتهاء بالملابس والأجهزة الإلكترونية، مثل أجهزة تلفزيون وآلات طحن البن التي يتم استعمالها في مقاهي. كنا نحمل أيضا السجائر، خصوصا نوع “مارلبورو”، وبعض أنواع أقراص الأدوية مثل “كالمانتي”، الخاصة بأوجاع الرأس، والتي كانت ولا تزال تلقى رواجا كبيرا في منطقة الشمال.
ألم تكن تحصل لكم مشاكل مع الأمن؟
أبدا. لقد كنا نمر مشيا عبر طريق محاذ للبحر ولم يكن يوجد به أمن مغربي. كما أن الطريق الذي نمر منه لا تمر عبره السيارات. كما أن أصحاب السلعة كانوا يتفاهمون مسبقا مع الأمن والديوانة المغاربة، أما الإسبان فإنه لا ضرورة لذلك لأنهم لا يقبضون الرشوة أصلا في عمليات التهريب هاته. كان أفراد الحرس الإسبان يكتفون بالنظر إلينا ولا يوقفوننا أو يتحدثون إلينا. إنهم لا يهتمون لذلك لأننا نُخرج السلع من سبتة، وهذا هو هدفهم لأن ذلك يدخل في إطار الترويج التجاري للمدينة. المشكلة الوحيدة للأمن في سبتة هو إذا رأوا شخصا يُدخل شيئا ما إلى المدينة، عند ذلك يتدخلون ويصبحون صارمين جدا.
كم أمضيت في بلونيش وأنت تمارس هذه المهمة؟
أمضيت حوالي سنتين، كنت أقضي خلالها أسابيع في القرية قبل أن أعود إلى منزلي. كان تهريب السلع عبر بليونش موضة ذلك الوقت، والكثير من شباب قبيلة أنجرة جاؤوا إلى بليونيش للعمل في تهريب السلع. في كل عملية تهريب نقوم بها كان المكلف بنا يمنحنا ورقة إيصال “بون”، ونحتفظ بكل الأوراق إلى غاية نهاية اليوم أو الغد لكي نحصل على أجرنا.
خلال هذه الفترة تغيرت أحوالي المادية وصرت أعتني بنفسي وأشتري ملابس جديدة وأمنح مساعدات لأسرتي، قبل أن يأتي اليوم الذي تعرفت فيها على شخص كان يقوم بتهريب الحشيش عبر مضيق جبل طارق، وطلب مني العمل لحسابه، ولم أتردد في القبول لأني لم أكن أفتقر للشجاعة والطموح من أجل ذلك. كان سني وقتها 17 سنة، وبمجرد أن اقترح علي العمل في تهريب الحشيش قلت له نعم، وتمت أول عملية في ليلة نفس اليوم الذي التقيته فيه.
هل كان هذا الشخص معروفا في مجال تهيب الحشيش؟
لا، لم يكن معروفا وقتها، بل إنه كان يشتغل في البداية في تهريب السلع العادية من سبتة نحو بليونيش، وأنا اشتغلت لحسابه من قبل دون أن أتعرف عليه، لذلك لم أفكر طويلا عندما اقترح علي العمل معه في تهريب الحشيش نحو السواحل الإسبانية.
كيف إذن كانت رحلتك الأولى في تهريب الحشيش؟
كانت نقطة انطلاقنا مساء أحد أيام صيف سنة 1989، من شاطئ في منطقة الدالية يسمى “واد الرمل” (حيث يوجد الآن الميناء المتوسطي).
هذه الرحلة تقرر أن نحمل فيها ثلاثة أكياس من المخدرات، وكل كيس فيه 30 كيلوغراما، أي ما مجموعه 90 كيلوغراما. هذه البداية لم تكن سيئة، لأن ما سيأتي من أيام سنحمل فيها كميات أكبر، وسيصل الأمر إلى انطلاق قوافل من الزوارق في عرض البحر حاملة كميات كبيرة من الحشيش.
المهم، كانت هذه الليلة بالنسبة لي على قدر كبير من الأهمية لأني سأحاول أن أثبت من خلالها أني رجل يستحق الثقة، صحيح أني كنت في السابعة عشرة من عمري، لكني كنت مستعجلا من أمري لكي أجرب ما جربه غيري من قبل.