قليلون من جيل طنجاوة الجدد يعرفون ما هو “العشْلوشْ”، وحتى تسميته عجيبة لا توجد سوى في قواميس القدامى.
العشْلوش نبات بري يشبه السبانخ وينمو في غابات المدينة التي كنا نستمتع بنزهاتها قبل أن يغزوها الأسمنت.
كنا نجد العشْلوش كثيرا في عشّابة وبُوبانة وسيدي حْساين، وكلها أماكن كنا نزورها في الربيع لنرعى، مثل الماشية، كثيرا من الأعشاب، ومنها الحُمّيْطة الشهيرة، ولب بعض الورود البيضاء التي كان لها مذاق الزهر، والتوت الأخضر والتوت الشوكي.
لا أدري كيف افتقدنا تلك العلاقة الحميمة مع الطبيعة، فقد كنا نتذوق كل شيء قابل للمضغ، دون أن أنسى “الجُمّار العظيم” الذي كان يتطلب براعة كبيرة لاقتلاعه من جوف الأرض وأكله نيئا.
أيام الطفولة في طنجة لذيذة وفيها سحر البساطة ونمط حياة مختلف تماما. كنا نفرح لأبسط الأشياء، وطبعا كان الأكل جزءا أساسيا من حياتنا. كنا نتداول حلويات عجيبة مثل “العسْليّة” التي تُحضّر بكثير من السكر المحروق وبضع حبات لوز. أضف إليها “الشامية” و”جبان.. كل وبان”.. والحلوى دْ التفاح مغلفة بطبقة سكر محروق أحمر. كنا نحبها نحن البنات لأنها تحول شفاهنا إلى حمرة طبيعية لافته، ومعها السّْفوف الأبيض، زد عليها كالينْتي، وما أدراك ما كالينْتي. لقد كنا نلتهم كل شيء وبشهية كبيرة.
في الحفلات المدرسية نشتري قرعة اللّيْمونادا وباكيطي دْ هنريس، وكان الجميع متساويا في هذا، وقليل منا من كان يشتري الحلوى، بل أشهر حلوى هي “بّاسْطيلي بالميرينكي”، أو الميرينكي الوردي، والتي كنا نشتريها من جارنا الحلْوي في الحومة دْ بْرجيكا. كنا نسميه الحلْوي ولا أدري حتى اليوم ما هو اسمه الحقيقي. كان يعطينا زلافة كبيرة من المرينكي ببلاش، وأحيانا ب 50 فرنك. أما الميلْفُوي فكانت رقائق صغيرة من العجينة المقرمشة مغطاة بالكْريم وكان مذاقها لذيذا جدا، أتذكره الآن فيسيل لعابي.
اليوم تغيرت أذواقنا كثيرا، وحين ذقت مرة العشلوش استغربت كيف كنا نأكله وكيف تغير الطعم إلى هذا الحد. في الماضي كنا نحتفي بكل ما حولنا ونفرح بأقل الرفاهيات الممكنة. اليوم صارت الحياة أكثر رفاهية ولكن مزاجنا وأذواقنا تعقدت. لقد كثرت السيارات لأجل النزهات ولكن وقتنا ضاق كثيرا، وحين نحنّ إلى بوبانة وعشلوشها نجدها مجرد بنايات أسمنتية استحوذ عليها ملتهمو الغابات والمساحات الخضراء.
يسعدنا عشْلوش بوبانة في الربيع، و”تكْرة” القصر الصغير، والجبن العربي مع الخُبْزة دْ الزّرعْ، والتبحيرة في القيطون فابور.
تغيرت مذاقات طنجة.. لكن طنجة هي طنجة.. تسكن القلب إلى الأبد.