هناك فنادق في طنجة ارتبطت بأسماء فنانين كبار أكثر مما ارتبطت بأي شيء آخر. ليس من الضروري أن تكون الفنادق فارهة أو شاعرية، المهم أن تكون جيدة ومريحة، وأن تكون نوافذها مشرعة على قلب المدينة وممتدة في عمقها.
ليس هناك ارتباط أكثر قوة بين فندق وفنان أكثر من ارتباط فندق “فوينتيس” بالرسام الطنجاوي الشهير أنطونيو فوينتيس، الذي ولد لكي يرسم، وعاش كائنا طنجاويا بامتياز.
طنجاوي قبل العهد الدولي
ولد أنطونيو فوينتيس في طنجة سنة 1905، أي قبل أن تدخل هذه المدينة رسميا عهد الوصاية الدولية، والسبب هو أنها كانت دائما مدينة مفتوحة أمام العالم، وكانت مدينة دولية في عمقها حتى قبل أن تكون كذلك بحكم الاتفاقيات والمعاهدات الحكومية.
رأى فوينتس النور في مكان له دلالة رمزية خاصة في المدينة، وهو السوق الداخلي، في بيت عائلة فوينتيس الشهيرة، التي كانت تمتلك مقهى ومطعما وفندقا في ساحة سنترال، الساحة التي لا غنى عنها وقتها لمن يزور أو يقيم في طنجة، لأنها كانت بمثابة القلب النابض للمدينة في كل المجالات.
في فندق العائلة، الذي كان يحمل نفس الإسم، وهو فندق فوينتيس، تربى الطفل أنطونيو بطريقة خاصة جدا، وهناك التقى بمشاهير وفنانين من كل العالم، وكثيرا ما جلس، وهو طفل صغير، في سطح الفندق المطل على الميناء ومضيق جبل طارق، واستمع لتلك الحكايات الكثيرة لنزلاء الفندق، القادمين إلى طنجة من طل الأصقاع، ولكل قادم حكايته.
الرسم على الموائد
عندما كان في أنطونيو في سنواته الأولى، صار يرسم على موائد المرمر في الفندق، والتي كانت بمثابة لوحاته الأولى في عالم الرسم. وبما أن عائلته كانت تدرك أن ذلك لم يكن مجرد نزوة طفل، فإنها دفعت به إلى الأمام وكلفته بمهمة خاصة، فرسم جدرايات خاصة بالفندق. وفي الثالثة عشرة من عمره كان قد بلغ سن النضج، وبدأ ينشر رسوماته في صحيفة “إيل هيرالدو دي مارويكوس”، الصادرة بطنجة، وفي الرابعة عشرة من العمر خطا خطوات سريعة في مجال النشر ووسع مجال عمله مع صحف أخرى، وصار ينشر رسومه الكاريكاتيرية في صحف أشهر مثل “لا إيسفيرا” و”إيل نويفو موندو”.
مع مرور الوقت صار سليل عائلة فوينتيس واحدا من الوجوه البارزة والمميزة في طنجة. وقال عنه المؤرخ الفرنسي، بيير غراسيي، إنه يمثل لوحده تاريخ طنجة.
من طنجة إلى مدريد
في سنة 1925، وعندما كان أنطونيو في العشرين من العمر، قرر أن يفتح لنفسه آفاقا أقوى وهاجر إلى العاصمة الإسبانية مدريد لدراسة الفن في أكاديمية الفنون الجميلة “سان فيرناندو”.
لم يستمر الشاب فوينتيس طويلا في أكاديمية مدريد، وربما لم يعجبه انضباطها الموغل في الرتابة، خصوصا وأنه القادم من طنجة، المدينة المتمردة على الضجر والملل، والغارقة في بوهيميتها الجميلة.
بعد ثلاث سنوات فقط من إقامته في مدريد، يمّم فوينتيس وجهه نحو العاصمة الفرنسية باريس، المدينة التي كان كل متعاطي الفن يحلمون بزيارتها، وهناك وجد أنطونيو ما كان يبحث عنه، وحد راحته النفسية التي جعلته يرسم أولى أشهر لوحاته، ثم سار سريعا في سكة الشهرة، وتحول في وقت وجيز إلى واحد من أشهر رسامي العالم.
ابن مدينة رائدة
فوينتيس، حين كان يعيش في مدريد أو باريس، لم يكن يحس بأية عقدة نقص ولم يسقط فريسة انبهار ساذج بأوربا، فهو في الأصل ابن مدينة كانت رائدة في أشياء كثيرة، حيث كانت طنجة تنافس مدن العالم، كما أنه ولد في مدينة كانت واحدة من أولى المدن في مجال الصحافة، لذلك عندما رحل إلى أوروبا للدراسة فإنه استمر على نفس النهج الذي بدأه في مدينته طنجة، وهي نشر رسوماته الكاريكاتورية في أشهر الصحف الإسبانية أو الباريسية، ونشر طويلا في صحيفة “لاسومين دو باري”، وبفضل تلك الرسوم صار أيضا واحد من أفضل الأسماء الصحافية، ولم يفلت من قبضة أقلامه إلا قليلون من عالم الفن والسياسة والاقتصاد في إسبانيا وفرنسا.

العودة إلى العش
الأحلام الكبيرة التي كانت تسكن رأس الشاب أنطونيو كانت تسير بسرعة مذهلة نحو التحقق. ففي سنة 1930 تم قبوله في الأكاديمية الفرنسية الشهيرة “لاناسيونال دي بوزار”، وبعد ذلك أقام أول معرض فردي له، كعلامة فارقة في مسيرته الفنية على تفرده واستقلاليته، ثم صار واحدا من “شلة” الفنانين الأكثر شهرة، حيث التقى بيكاسو وكيسلينغ وفلامينك، وهم أشهر وجوه الفن في تلك الفترة.
المرور من مدريد وباريس لم يكفيا فوينتيس، لأن هناك ممرا ضروريا آخر لكل فنان في تلك الفترة، وهي إيطاليا، التي كانت تشبه معبدا به أعتق الكهنة… كهنة الفن، وهكذا ذهب فوينتس أول مرة إلى فلورنسا، ثم تحول نحو العاصمة روما.
وكما يحدث دائما لكل الطيور المهاجرة، فإنها تعود إلى أعشاشها عاجلا أو آجلا، لذلك، وبعد ربع قرن من الهجرة والتجوال، قرر فوينتيس أن يعود أخيرا إلى مدينته طنجة مباشرة بعد أو وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.
لا أحد يصدق
في طنجة وجد فوينتس نفسه رجلا بعد أن غادرها شابا قبل 25 عاما، لكنه وجد فندق العائلة هو نفسه، وساحته هي نفسها، وفضاءاتها تزداد تطورا، خصوصا وأن المدينة لم تتضرر إطلاقا من شظايا الحرب الأهلية الإسبانية (1936 _ 1939)، ولم تصلها نيران الحرب العالمية الثانية (1939 _ 1945)، بل إنها شكلت في كثير من الأحيان ملاذا لكثير من المشاهير والكثير من الأغنياء والتجار ورجال الأعمال.
اليوم لا أحد يمكنه أن يصدق أن ذلك الفندق الجميل في ساحة سنترال بالسوق الداخل، هو نفسه الموجود اليوم في نفس المكان. فالكثيرون يمرون أمامه كل يوم، وربما يجلسون في تلك المقهى الموجودة أسفله، لكنهم لا يتخيلون أبدا أن هذا الفندق بالضبط، هو نفسه الذي شهد ميلاد ونبوغ موهبة واحد من أفضل رسامي عصره، أنطونيو فوينتيس، الذي عاش طويلا وعاند حتى تجاوز التسعين من العمر كأنه طفل كبير يرفض أن تفارقه غريزة الاكتشاف.
فكرة..
اليوم، كان بإمكان فندق فوينتيس، مثل أماكن كثيرة في المدينة، أن يكون متحفا أو مزارا فنيا ويجلب الكثير من السياح. كان يمكنه أن يكون وسيلة للاستثمار الاقتصادي ويتحول إلى مكان يضم لوحات فوينتيس وتفاصيل حياته حتى تحافظ هذه المدينة الغرائبية على تاريخها ورصيدها الثقافي والفني.
ففي إسبانيا مثلا، تحولت منازل فنانين مثل بيكاسو أو سالفادور دالي إلى متاحف حقيقية، وهي تستقبل كل يوم آلاف السياح من كل العالم، في مزيج واقعي ورائع من بين الحفاظ على التاريخ الفني وبين الاستفادة المادية.
ثمن الاستقلال
كان فوينتس، حتى بعد تقدمه في العمر، كثير المقام في طنجة، وحين يغادرها يعود إليها سريعا كما يعود سمك السلمون إلى مهده، وفيها يرى حجم التغيرات الكبيرة والمحزنة. يرى فندق العائلة كيف صار، ويرى ساحة سنترال كيف أصبحت، ويرى الناس غير الناس والوجوه غير الوجوه والأحلام غير الأحلام.
لكن أكثر شيء رآه فوينتس هو كيف تحولت مدينته من إحدى أكثر مدن العالم ازدهارا، إلى واحدة من أكثر مدن المغرب تخلفا. ربما هو تساءل بدوره هل هذا هو ثمن الاستقلال.. ربما تساءل ذلك كما تساءل كثيرون غيره نفس التساؤل.