كم كان جميلًا، أن تتمرّد طنجة !
كم كان جميلًا، أن تكسر أسنان مصّاصي الدماء، الذين امتصوا دماء وجيوب البسطاء لآخر نقطة، وآخر درهم.
هذه المرة لم يصنع الفايس بوك الحدث، بل كان مواكبا له فقط.
الذين وقفوا وصرخوا بعلوّ الصوت، والذين أطفئوا الضوء قبل الجميع، لم تكن لهم حسابات في الفايس، فقط كانت لهم حسابات مع أمانديس الشركة المصاصة للدماء، الشركة الأخطبوط التي سحقت سكان طنجة لسنوات طوال.
هذه المرة كان الشعب وحده بطل اللّحظة، ولينزل المتسلقون عن ظهر المواطن البسيط، الذي قلب الطاولة على الاستغلال البشع لشركة لم تتردد لحظة في التهام لقمته الهزيلة، وأظهر استعدادًا مذهلًا للتضحية من أجل ركل مصاصي الدماء خارج مدينتهم.
مواطنو طنجة البسطاء، من قاد هذه الانتفاضة، وأظهر إصرارا فريدًا، وصمودًا كبيرًا في رفض الحلول الترقيعية، وتبريرات المسؤولين التي رشّت الملح على جراحهم، ولم تزدهم إلا تمسكًا بمطالبهم. و من المخجل أن تجد البعض يحاول تسلق آلامهم وتضحياتهم لأجل مكسب حقير، مهما كانت طبيعته، التي لا تخرج عن مستنقع السياسة البراغماتية..
بعد كل تلك السنوات التي رأيت فيها ساكنة طنجة تبكي وتشكي جماعات وأفرادًا، من النصب الوقح لهذه الشركة، وابتزازها لهم، دون أن يتحول ذلك إلى موقف جماعي، كمن تطبع مع القهر، واعتاد على الاستغلال، و كل ما يمكنه فعله بعده هو البكاء بصمت وحرقة في الظّل، ثم العودة لتلقي صفعة أخرى على الخد الأيسر.
كنت يائسة من أي رد فعل جماعي يقوم به الأفراد وحدهم، دون أجندة أو جماعات مأدلجة أثبتت خوائها بعد امتصاص قواها بسرعة الضوء بعد خفوت نجم 20 فبراير. رد فعل يقوم به لأجله فقط، لأجل الندوب التي تراكمت في روحه، لأجل الدموع الخفية..
أمانديس لم تمص دماء البسطاء من تلقاء نفسها ودون جهات كثيرة تستند عليها، بل تقف على منظومة قانونية ثبت اعوجاجها، وعلى أكتاف صف طويل من المستفيدين من حليبها الدسم
لكن لحسن الحظ انتفضت طنجة أخيرًا، وانبعث الأمل في غد أفضل مرة أخرى.
هذه المعركة عليها أن لا تنتهي، حتى لو رحلت أمانديس، فقد يأتي أسوء منها، والتحدي الآن أن تبقى جذوة الحياة مستمرة، و يستمر العصيان على كل مظاهر الاستبداد، اجتماعية، اقتصادية وسياسية. فأمانديس لم تمص دماء البسطاء من تلقاء نفسها ودون جهات كثيرة تستند عليها، بل تقف على منظومة قانونية ثبت اعوجاجها، وعلى أكتاف صف طويل من المستفيدين من حليبها الدسم، الذين استطاعوا إبقاءها صامدة لا تتزحزح عن موقفها المستفز والمبتز، رغم تزايد شكاوى المواطنين التي تعود إلى سنوات طويلة من المعاناة، دون أن يتحرك فيها إنش واحد.
كان الخوف كبيرًا من استغلال البعض للمسيرات الاحتجاجية، لتحويلها إلى فوضى تُقابل بالعنف، لكن لحسن الحظ هذه المرة كان أهل طنجة أكثر وعيًا، وامتصوا كل محاولة لإخراجها من سلمية الاحتجاج، رغم استفزاز قوات الأمن. وكانت مخاطرة كبيرة لكنهم قبلوا بها لأجل القضية، خاصة مع ما حدث في الأسبوع الأول من الاحتجاج، الذي شابت سلميته أعمال عنف متفرقة.
ربما كان من الأفضل الاكتفاء بإطفاء الأنوار والامتناع عن أداء الفواتير، فالاحتجاج بالعصيان الفعلي أكثر نجاعة من الخروج إلى الشارع، الذي هو تنفيس عن الغضب أكثر منه وسيلة ضغط، فشركة مثل أمانديس لن تتأثر بالمسيرات، لكن خسائر مادية فادحة، ترغمها على التنازل، وإرخاء أسنانها عن البقرة الحلوب التي وجدتها في جيوب المواطنين، لأنه لا يبدو أن الأمر سيُحل قريبًا، بل أن يمكن الجزم أن طنجة تنتظرها ليالي أخرى من الشموع، والأنوار المطفأة.
جميلة ورومانسية جدًا هي طنجة، في حلة الثائرة المناضلة..
جميلة هي البدايات التي تبدأ من البسطاء، والأجمل أن تشكّل هذه البدايات، حجر الأساس لوجود حقيقي لكيان سامي اسمه “الشعب”، كيان انتظرناه منذ كتب علينا قدر الرّعايا. وأن تستمر البداية حتى يتكرس وجوده، وتتزلزل كراسي مصاصي دماء هذا الوطن.