من الصدف الغريبة المرتبطة بقصر السلطان عبد الحفيظ، أن بناءه بدأ سنة 1908، وهي نفس السنة التي تم فيها عزل السلطان عبد العزيز، حيث خلفه السلطان عبد الحفيظ، وفي النهاية سيتم أيضا عزل عبد الحفيظ، ليجد هذا الأخير مأواه في نفس القصر الذي بدأ بناؤه في نفس السنة التي أصبح فيها سلطانا، فصار مأواه لما بعد عزله، ولو لحين من الدهر.
قصر السلطان عبد الحفيظ بني على هضبة في طريق جبل مرشان، المنطقة التي كانت تأوي فقط الأجانب والأعيان، وأيضا الكثير من اليهود، اليهود الموسرون فقط، لأن يهود طنجة الفقراء كانوا يتوزعون على كل أنحاء طنجة الدولية، ولم يكن لهم حي خاص بهم، مثل تلك الأحياء اليهودية التي كانت تعرف باسم الملاح في باقي مدن ومناطق المغرب.
قروض السلطان
لم يأت السلطان عبد الحفيظ إلى القصر مباشرة بعد اعتزاله، أو عزله، بل سكن القصر قبله أشخاص آخرون، وكل ما حدث أن السلطان المعزول ارتأى أن يختار لنفسه قصرا كما لو أنه لا يزال سلطانا، وفيه مارس دوره كما لو أنه لا يزال صاحب الشأن، مع أن هذا الوهم لم يكن كثيرون يقاسمونه إياه، والدليل على ذلك أن كبار تجار طنجة وقتها، وعدد مهم منهم من القادمين إليها من فاس، اكتسبوا حماية أجنبية بمجرد أن طلب منهم السلطان قرضا. ربما عرفوا، بحس التاجر الذي لا يخطئ، أن سلطانا سابقا لا أحد يجبره على رد قرض، فارتموا في حضن حماية لا تأخذ منهم قروضا.

مدينة السلم والحرب
جاء السلطان عبد الحفيظ إلى طنجة بعدما ترك البلاد في يد سلفه، وكان المغرب وقتها يجتاز ظروفا صعبة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وكانت طنجة في ذلك الإبان عاصمة دبلوماسية ينظر من خلالها المغرب إلى الخارج، وينظر من خلالها الخارج إلى المغرب، لذلك لا غرو إن كانت هذه المدينة مقصدا للجميع، يرون من خلالها العالم.
لكن من غريب طباع طنجة، أنها كانت تبدو وقتها في غاية الهدوء حتى عندما كانت البلاد تشهد اهتزازات قوية، داخلية وخارجية، ولم تكن تحفل بما يجري في “الداخل” من مؤامرات البلاط وعزل ملوك وتنصيب آخرين. لقد كانت مدينة ترى نفسها في المنزلة بين المنزلتين، لا هي بمغربية حتى النخاع ولا هي تنتمي لمكان آخر، لذلك لعبت دورا قد يكون أكبر من حجمها بكثير، دورا في السلم والحرب، في الفتنة والهدوء، ومن بين أدوارها هي استقبالها لأصحاب السلطة المعزولين أو المنهزمين، وفوق هذا وذاك تكرم وفادتهم، بل تخصص لهم أفضل ما عندها.
عبق الأندلس
قصر مولاي عبد الحفيظ، واحد من تلك الأماكن التي ظلت لأزيد من قرن تستقبل ملوكا وأمراء قادمين من فاس أو مراكش أو الرباط، بعد أن طوحت بهم الأقدار. ومنذ أن بني هذا القصر، فإنه استقبل كثيرين، لم يكن السلطان عبد الحفيظ سوى واحد منهم فقط، لكنه حمل اسمه إلى الأبد.
بني القصر على شكل بناية حصينة في طريق هضبة مرشان، وهو يشبه قلعة أو حصنا منيعا بأسوار عالية، لكن بداخله توجد تحف معمارية حقيقية، وأصول بنائه طبقت فيها فنون من كل الثقافات، بما في ذلك المعماري المغربي والأندلسي، وقليل من المعمار الأوروبي، وكثير من عبق التاريخ.
يضم القصر الكثير من الغرف التي تحف بحديقة واسعة تتوسطها نافورة، ومن بين هذه القاعات توجد القاعة الكبرى، وهي قاعة الضيافة، التي لا تزال إلى اليوم تتميز بزخرفة عجيبة بين ثريات مبهرة. في هذه القاعة جرت اجتماعات ولقاءات تصعب على الحصر، وفيها التقى مسؤولون ودبلوماسيون من كل العالم، وفيه رسمت سياسات وحبكت مؤامرات، وهي القاعة التي لا تزال إلى يوم تحتضن ندوات وسهرات ولقاءات من كل الأنواع، ما دام أن طنجة، بكل تاريخها وحاضرها، تفتقر لمركبات ثقافية يلجا إليها السكان بحثا عن أوكسجين معنوي.

لعب ولهو وثروة
وحتى في زمن السلطان عبد الحفيظ، لم يكن دور قصر السلطان عبد الحفيظ من أجل السياسة وهمومها، والدبلوماسية ومؤامراتها، بل احتضن أيضا الكثير من جلسات اللهو والأنس، ما دام أن السياسة ارتبطت على مر الأزمان بالسهر والأنس واللعب، وفي النهاية فإن السياسة لعب ولهو وزينة وتفاخر بالأموال والنفوذ والثروات.
هذا القصر بكل ما فيه، لم يعمر فيه السلطان عبد الحفيظ سوى ثلاثة أشهر، قبل أن يهاجر إلى فرنسا، حيث عاش ما تبقى من عمره، حيث قيل وقتها إنه صار عضوا نشيطا في الماسونية الدولية وأحد أبرز أعضائها. ورغم أن السلطان لم يعش في هذا القصر سوى هذه المدة الوجيزة، إلا أنه ارتبط باسمه حتى اليوم.

من حسن الحظ…
بعد أن انتهى كل شيء، وذهب التاريخ وماتت الجغرافيا وأصبح كل شيء في خبر كان، فإن هذا القصر كان أسعد حظا من أمكنة أخرى، حين صار في ملكية الدولة الإيطالية، وهذا ما جعله يحافظ على كل شيء داخله.
اليوم يوجد في المكان القنصلية الإيطالية وكنيسة كاثوليكية إيطالية ومطعم إيطالي، لكنها كلها أمكنة توجد في محيط القصر وليس داخله. وفي المكان أيضا يوجد المستشفى الإيطالي والمدرسة الإيطالية. لكن لا شيء من هذه “الأشياء” بقي كما كان. فالقنصلية الإيطالية رحلت نحو الدار البيضاء، والكنيسة الكاثوليكية، التي بنيت سنة 1950، أقفلت أبوابها سنة 1995 بسبب قلة “المؤمنين”. والمستشفى الإيطالي الذي كان نموذجا في جودة الخدمات، صار اليوم مختصا في استقبال الفقراء والمعوزين، والمدرسة الإيطالية، التي كانت تستقبل أبناء نخبة المدينة، أقفلت أبوابها لقلة التلاميذ.
القصر ومحيطه كان بمثابة جمهورية إيطالية صغيرة في قلب طنجة، وهذا طبعا لا يزعج السكان، بل يزيد ارتياحهم بشكل كبير لأن إيطاليا حافظت بكل أمانة على القصر ولم تمنعه يوما عن الذين يريدون إقامة حفلات موسيقية أو محاضرات ثقافية.
هذا القصر كان محظوظا بالمقارنة مع أماكن أخرى سقطت في يد المغاربة فحولوها إلى إقامات خاصة أو فيلات أو عمارات شاهقة.. أو مزابل.