في شارع الحسن الثاني بطنجة، هناك سور أبيض كبير يمتد من أمام محطة البنزين قرب الكنيسة الكاثوليكية حتى الطريق الفرعية نحو السوق البراني، وهذا السور يعتبره البعض “مباركا” ويختلف عن باقي الأسوار، لذلك من غير المستغرب أن تشاهد امرأة ساذجة تتبرك بالسور وتتلمسه بيدها، أو تقبله مباشرة وتتمسح به. إنه السور الذي يقبع حلفه ضريح الولي الصالح سيدي بوعراقية، أشهر ضريح في طنجة على الإطلاق.
هذا الضريح كان على مر السنين محجا لكثير من سكان المدينة، لكنه كان أيضا محط جدل بالنظر إلى تلك السلوكات الغريبة والمخلة بالسلوك القويم، التي يكون أبطالها زوار يضعون عقولهم جنبا إلى جنب مع أحذيتهم قبل دخول الضريح.

رجل علم ومقاومة
لم يكن الولي الصالح، سيدي محمد الحاج البقالي، المعروف بأبي العراقية الخضراء، رجل زهد وتكاسل، أو منعزل عن الحياة العامة رغبة في الحصول على تكاليف الحياة بأقل جهد، بل كان مثل غيره من أغلب المتصوفة المعروفين، رجل علم ومقاومة، وهو كان يعرف في طنجة باسم “ضامن المدينة”، ليس بمعناها الميتافيزيقي – الخرافي، بل بمعناها الحقيقي، لأنه كان يقود المقاومين للوقوف في وجه الغزاة البرتغاليين والإنجليز والإسبان، خصوصا وأن طنجة كانت على مر السنين محط أطماع العالم كله، لذلك أنجبت الكثير من المقاومين الذين، إما أن الأيام ذهبت بريحهم وأصبحوا نسْيا منسيّا، أو أنه تم تخليد أسمائهم إلى الأبد.
خلف ضريح سيدي بوعراقية توجد مقبرة كبيرة على مساحة عدة هكتارات، وهي التي استقبلت أموات مسلمي طنجة على مر التاريخ. في هذه المقبرة دفن الكثير من علماء طنجة ومقاوميها، وفيها دفن ضحايا انتفاضة مارس 1952، وفيها دفن مشاهير طنجة من المسلمين. وفي سنة 1965 توقف الدفن فيها رسميا، وقبل بضع سنوات جاءت الجرافات وحطمت مئات القبور من أجل فتح طرق جديدة وتوسعة أخرى، لكن هذه الجرافات ظلت بعيدة عن قبر الولي بوعراقية.

أصل البلاء البدع
ولد الولي الصالح بوعراقية في قبيلة بني حسان، على مقربة من مدينة تطوان أواسط القرن الحادي عشر الهجري. وعلى عادة بيوت قبائل “جْبالة” الأندلسية في المنطقة، فإنه تربى في بيت علم وشرف، وتلقى علما غزيرا حتى صار ذائع الصيت، ليس في طنجة فقط، بل في منطقة الشمال كلها.

ومنذ عشرات السنين، استقطب ضريح الولي بوعراقية الكثير من الزوار، ومع مرور السنوات تحولت هذه الزيارات إلى ما يشبه تلمس البركات، ومع مرور الأيام تحول تلمس البركات إلى ما يشبه التقديس، ومع مرور السنوات تحول التقديس إلى ما يشبه الرفع بالولي الراحل إلى درجات فوق درجة البشر، وهذا ما دفع الكثير من علماء طنجة المتنورين، سنوات الستينيات من القرن الماضي، إلى المطالبة بوقف تلك المواسم التي كانت تقام في ضريح الولي بوعراقية، نظرا لاشتمالها على الكثير من مظاهر الشرك والحمق وعطالة العقل، من بينها قيام الكثير من السكارى بزيارة الضريح، وهو أمر لم يكن يتقبله لا الزوار ولا المشرفون على قبر الولي الصالح. وفي سنة 1972 تم إصدار قرار نهائي بوقف موسم الهدية نحو الضريح، وهو موسم كان يشارك فيه شيوخ عدد من الزوايا الدينية، واختلطت فيه الكثير من مظاهر غياب العقل وحضور مزمن للخرافة.

.. وكثير من السياسة
منذ ذلك الوقت، مرت مياه كثيرة تحت الجسر، ولم يكن لإلغاء موسم الهدية دور في التقليل من شعبية صاحب الضريح، إلى أن جاء إلى طنجة ولي من نوع آخر، أو على الأصح والي، هو الوالي محمد حصاد، وقرر أن يلغي قرار 1972، وأصدر قرارا يعيد موسم الهدية إلى سابق عهده، والذي كان يقام في سابع عيد المولد النبوي.
اليوم ينظم كل عام موسم الهدية نحو ضريح سيدي بوعراقية، وينطلق الموكب من ساحة الأمم، والذي أصبح موسما سنويا لا تشارك فيه الزوايا الدينية فقط، بل أصبح للغرف المهنية دور أساسي فيه، لأن كل غرفة من الغرف السبع، تقدم ثورا سمينا من أفضل ما عندها، لكي يكون قربانا مساء نفس اليوم، حيث تقام أيضا حلقات ذكر ومديح، لا تغيب عنها الوجوه المعروفة في طنجة، من بينها مسؤولون ومنتخبون، وهم الذين يعتقدون، لسبب ما، أن زيارة قبر الولي بوعراقية يجعلهم في منأى عن مشاكل العزل والإبعاد من المناصب، حتى أصبحت شهرة هذا الضريح تصل إلى أقاصي المغرب، حيث يُنصح كل مسؤول جديد يأتي للمدينة بزيارته، مع أن الولي بوعراقية لو كان حيا لعزلهم واحدا واحدا بقوة السيف.

ضريح سيدي بوعراقية هو اليوم واحد من الأضرحة والزوايا التي تتلقى دعما ماليا رسميا من الدولة. وفي كل عام، يأتي موفدون رسميون لكي يسلموا هبات ملكية إلى عدد من الزوايا، من بينها الزاوية الصديقية والزاوية القادرية، وضريح سيدي بوعراقية وضريح سيدي أحمد بن عجيبة في منطقة أنجرة.