كان سانشيز رودريغيز لصا إسبانيا كبيرا ذاع صيته. كان سانشيز الغجري المتمرد الغاضب على نظام فرانكو سارقا ليس كباقي اللصوص. كان يحمل في دمه و خياله نغمة ونبرة وكيمياء خاصة جعلته شخصا غريبا يشبه أميرا أو فقيها أو شيخ طريقة أو وليا من أولياء الله.
كان نجما حقيقيا في فترة طويلة من تاريخ أسبانيا.
اللص الظريف المعروف باسم إيل لوتي
El lute
ويمكن أن نسميه أيضا الهارب و لص الغجر. كان قد عاش حياة قاسية صعبة مليئة بالفقر والحرمان والثقوب.
كان إيل لوتي في مدريد مثل آل كابوني في شيكاغو. فقط الثاني نال شهرة أكثر من إيل لوتي.. أمير لصوص الغجر.
عام 1942 ولد اللص الشهير في إقليم سلامنكا وعاش طفولة غجرية محرومة في فترة خرج فيها فرانكو منتصرا مزهوا بقبضته على البلاد وانتصاره على الحمر الشيوعيين والجمهوريين.
مع الزمن سيكتشف الغجري المتمرد أسلوب انتقام من النظام ومن كل من ينظر إلى الغجر نظرة تهميش وتقزز. السرقة والنهب والكر والفر والدخول والخروج من السجن والمحاكمات المتكررة إلى حد صار اسمه يضرب به المثل.
إيل لوتي صار خطرا يهدد اطمئنان سيطرة فرانكو على البلد.
في مدريد كان يخرج في هجمات سرقة ويعود بالغنيمة يوزعها في الضواحي على فقراء الغجر المتروكين لقدرهم.
كان كريما في سرقاته كما كان كريما في توزيع حصاد غزواته وسرقاته. لذلك أحبه الناس و تعلق به الخيطانوس الغجر في كل اسبانيا.
حين دخل السجن أول مرة بدأ تعلم القراءة ثم الكتابة إلى أن تحول في آخر أيامه إلى كاتب مؤلفات وصاحب رأي في السياسية و الفكر وفي فن الحياة..
المثير في شخصية إيل لوتي هو أن الحياة يمكن أن تكون أحسن مدرسة وأحسن جامعة وهي الطريق التي سلكها الغجري المعارض الرافض لتقاليد دولة محافظة وشمولية .
مياه كثيرة ستجري تحت الجسر بعد وفاة فرانكو ويتغير مجرى الأحداث والتاريخ. و في هذه المرحلة سنجد الرجل دخل عهد المصالحة مع الحاكمين والنافذين في الدولة.
من كان يتصور يوما أن يرى إيل لوتي متصالحا مع السلطة من أجل المصلحة العامة ومن أجل البلد؟ هل هو تعب الرحلة والسفر أم أن المواقف والآراء التي لا تتغير تموت و تفنى.. و”الراس اللّي ما يْدور كدية” كما نقول نحن المغاربة..
الهارب المبحوث عنه من قبل البوليس والعدالة سنجده رمزا للمصالحة واضعا يده في يد الحاكمين ناسيا ما مضى متصالحا مع المستقبل.
هي قصة جرت لكثير من الناس والشخصيات في التاريخ وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف متصافحين ودودين متآلفين قريبين إلى خصومهم السابقين.
هل كان إدريس بنزكري خارج هذه الفئة هو الذي جرب السجن والمعارضة والرغبة في الثورة على النظام؟ هل كان خارج هذه الطبقة حين قبل بأن يقود عملية معقدة وصعبة في الإنصاف والمصالحة لطي صفحات سنوات الرصاص؟
لم يكن بنزكري وحده من الجيل المتصالح من أجل الدولة ومن أجل البلاد و العباد. كان معه جيل بكامله، تقريبا، تصالح رغم صعوبة بلع حبوب التصالح ودفن الماضي.
جيل 68 في فرنسا الذي حلم بالثورة وجدناه بعد ثلاثين سنة يحمل أهم المناصب في الدولة والجامعات والإدارة. الثورة صارت درسا للتاريخ ونوستالجيا فقط.
أعرف يساريين كانوا ينفخون في الكلام علينا في الجامعة فتحولوا اليوم إلى الإدمان على العمرة للسعودية وربوا لحية طويلة حبا وطواعية ولبسوا لباس الأفغان. كما أعرف أصوليين تحولوا إلى البوذية وإلى دين اسمه “لا أعرف ولا أدري”.
الفقيه البصري، الذي اختار الاختيار الثوري و حرض على الصعود للجبل و لجأ هاربا إلى الخارج، عاد بعد رحلة عمر فوجد أن العالم تغير و”أنك لن تستطيع أن تستحم في النهر مرتين” على قول الحكمة اليونانية.
لا شي ساكن. الكل في حركة الأطروحة و النقيض.
هل نحن هم نحن حقا حين نعود إلى صورنا القديمة؟
اليوم نرى رجلا آخر وهو محمد الفزازي وقد وصل إلى محطة سفر في الحياة عنوانها المصالحة.
يمكن أن أختلف طولا وعرضا، أفقيا و عموديا، مع الفزازي من الناحية الفكرية والعقائدية والسياسية و كل شيء.. لكن لا يمكن قبول فكرة محاسبته على الانخراط في المصالحة لأنها عمل يجمع ما بين السياسة في بعدها الواقعي والعملي والبرغماتي وبين رغبة إنسانية وأنسية و قناعة واختيار طوعي في حب الحياة ومصافحة الآخرين.
أحب أن أقرأ قصة الغجري الذي بدأ حياته في السجون وأنهاها يوقع مؤلفاته ويحاضر في تاريخ إسبانيا ويأخذ صورا تذكارية مع المعجبين.. أحب أيضا مسار الراحل إدريس بنزكري الذي عرفته عبر عبد القادر الشاوي وجمال شيشاوي وألياس عماري في فترة بعد 17 سنة من الاعتقال.
أما محمد الفزازي بقدر ما أجد نفسي بعيدا عنه أيديولوجيا أعتبر قراره تمرينا جميلا عن جعل الدين دار سلام و تسامح وليس دار حرب.