بقلم: محمد بنمسعود/ هولندا
اتفقنا أنا ويعقوب أن نتشارك في جمع النّْحاس. ويوم يتوفر لدينا منه الكثير نبيعه.
أقصد بالكثير بضع كيلوغرامات. فقد سمعنا أنه معدن غال. ونحن لا شغل لنا. الوقت وقت العطلة الصيفية. هذا بالنسبة لي، أما بالنسبة له فأيام الله كلها عطل. يعقوب كان يكبرني بأربع أوخمس سنوات. وكان قد انقطع عن الدراسة.
هي مرات قليلة التي كنا نذهب سويا للتنقيب في الشوارع والمزابل عن المعدن الاصفر. في غالب الأحيان كان كل واحد منا يقوم بعمله بمفرده، أو مع صديق أو أصدقاء آخرين. لم نكن مرتبطين لا بالوقت ولا بالمكان ولا بعشير. كل على هواه، متى شاء وأنّى شاء، بدون قيد ولا شرط.
من رحلات العمل التي كانت تجمعنا، تلك التي كنا نمشي فيها من الحومة إلى مالاباطا. طول الطريق مطاطئين الرأس. ننحني هنا، نلتقط قطعة معدنية ، سلكا هناك، آنية، مسمارا … نختبره بعيوننا وبأصابعنا، وإن لم نتوصل إلى أصله، حككناه إلى أن يلمع اللون الأصفر من تحت الصدأ اوالغلاف الذي يغلفه… وهكذا.
لم نكن نتعب ولا نمل، بالعكس كانت لنا فيها متعة. متعة الكد وراء غْرامات من الصّْفار. ومتعة الاستمتاع بالنظر الى النهود العارية. نهود للشقراوات نزيلات أوطيل مالاباطا. المكان الوحيد الذي كان بإمكاننا أن نرى فيه أجسادا نسوية شبه عاريه. رؤيتها عن قرب وبالعين المجردة.
أجساد طرية شهية بدون بيكيني ولا بوركيني. هي فقط قطعة صغيرة من قماش يسترن بها ما تحت الصرة. قطعة قماش تترك في قلوبنا غصة وتجعلنا نشفق على ذواتنا ونلعن كبتنا…
كم مرة قطعنا فيها المسافة، ولم نجن فيها ولا غْراما واحدا.. لكن رؤية النهود، كانت تنسينا في المعدن الاصفر، وتصمنا عن الاستماع إلى قرقرة أمعائنا الفارغة. نتسكع في الشوارع وعيوننا لايشغلها سوى ما يكون لونه أصفر .لا نهتم لما يطير ولا لما يسير. همنا الوحيد هو المعدن النفيس.
وهكذا.. وبعد شهور من التنقيب والجمع كدسنا من قطع النحاس ما ارتأيناه كافيا للبيع. الكمية التي جمعناها لم تكن كبيرة. لكنها في عيوننا كانت وازنة في الميزان. هذا ما اعتقدناه. اكتفينا بما جمعناه، لأن الفيلم الذي يعرض في سينما كابيطول لابد من مشاهدته. وحتى لا يفوتنا، فلا بد من بيع الصفار. قليلا كان أو كثيرا.
فيلم ترينيتا لا يفوت. رؤية الضب ترينيتا وهو يحمل حصانه على أكتافه لقطة يحكيها الكل، ونحن لم نشاهدها بعد.. غير ممكن !. فلم يبق سوى يوم واحد وبعدها سيتم تغيير البارطيس، وهذا يعني أن الفيلم ستنتهي مدة عرضه بسينما كابيطول. وسينتقل عرضه الى سينما مريكان. ونحن نريد مشاهدة الفيلم على شاشة سينما كابيطول. أولا لأن قاعتها أوسع وشاشتها أكبر. ثانيا لأن ببابها تباع كل ما كنا نشتهيه من حلويات. كالينطي.. العسلية. الشامية. السفوف.باسطيلي.. جابان ..تركية زريعة… كل ما كنا نشتهيه موجود. أما بباب سينما مريكان فلا شيء. كيف وهي توجد معلقة فوق الدروج. لا مكان للبائعين عرض بضاعتهم ولا مجال لتجمهر الرواد والمشترين..
المهم حتى لا نضيّع فرصة الاستمتاع بالدراهم التي سنجنيها بعد شهور من العمل، من الجمع والفرز والتخطيط والحلم…ها قد جاء اليوم الذي سنجني فيه الثمار. إلتقينا أنا ويعقوب في اليوم الذي حددناه موعدا للذهاب إلى سوق كسابارطا لبيع المحصول. تسابقنا إلى السوق ، وقصدنا باالخماج. هكذا عرفناه وهكذا كنا نسميه. لاحقا سمعت بأن إسمه الحقيقي هو باالخماس وليس الخماج. لكن الخماج هو المناسب، فكل ما في محله مصدره الخماج، آت من المزابل. أي شيء تقع عليه عينيك أو يديك هو من المتلاشيات. لا مكان للجديد في دكان باالخماج. لا مكان لما هو معلب أومغلف. كل شيء مبعثر كيفما إتفق. أواني منزلية، رزم من الكرتون، أسلاك معدنية، فردات أحذية. .. لكل شيء ثمنه عند باالخماج. هو يشتري كل شيء. وما يدفعه هو أقل بكثير مما كنت تحسب أنك ستتقاضاه. ما يكفي لدفع ثمن تذكرة دخول السينما مع التحلية. لا أقل ولا أكثر .
أعطينا باالخماج الكيس الذي يحتوي عرق الشهور الماضية. افرغ محتواه فوق كفة الميزان. تناول قطعة من المغناطيس بين أصابعه وأخذ يمررها بين ما أفرغه من قطع معدنية. كل قطعة يلتقطها المغناطيس هي ليست من الصفار .كلما التصقت قطعة بالمغناطيس يهتز معها قلبي، أعيد الحساب واختزل عددا من الفرنكات التي حلمت بتقاضيها. طارت غرامات كثيرة من الكفة وطارت معها الكثير من العسليات…
أربعة دراهم بالكمال والتمام هو المبلغ الذي حصلنا عليه. ولا مجال للمساومة أو المقايضة. الميزان لا يخطئ وثمن الكيلو معروف في السوق… أخذنا الدراهم واعقبنا راجعين، في باب السوق أعطاني يعقوب نصيبي من الشركة. هو درهم واحد يتيم. أخذت الدرهم، وافترقنا في صمت. أنا لم أحتج أو أطالب بالزيادة. وهو لم يقل شيئا. لكنني فهمت أن أغلب القطع ألتي التصقت بالمغناطيس كانت من نصيبي.
دخلت السينما ب60 فرنك واشتريت عسليتين إثنتين..
واحدة قبل الدخلة والثانية بعد الفيلم واحتفظت ب 20 فرنك للفيلم القادم.