طنجة أنتر:
نقلت وسائل التواصل الاجتماعي خلال هذا الأسبوع مشهدا رهيبا بطنجة يتعلق بتعمد سائقين الاصطدام بين سيارتين للنقل السري بسبب دخولهما في نزاع لأسباب قد تتعلق بالتنافس غير الشريف على استقطاب الزبناء عند نقطة بالطريق الوطنية، وهو الشارع الرئيسي الذي يتميز بالحركة الدائبة والمكثفة لعربات السير. وقد جرت المعركة بين الطرفين بواسطة العربتين من نوع “فوركون”، محملتين بالركاب الذين عاشوا حالة من الرعب والخوف على حياتهم بسبب حماقة السائقين اللذين ألقي عليهما القبض فيما بعد من طرف أجهزة الأمن.وقد كادت إحدى العربتين وهي تتحرك بهستيرية في عرض الطريق أن تتسبب في وقوع جملة من الحوادث في آن واحد، الأمر الذي أثار موجة من الرعب والقلق في نفوس كل من عاين ذلك المشهد المؤلم الذي يدل على مستوى الفوضى التي يمارسها سائقو مثل هذا النوع من النقل الذي يعمل خارج سلطة القانون ..
ومن خلال تتبع هذا الخبر وتداعيات الحادث، يظل السؤال المطروح هو؛ ماذا بعد كل ما جرى؟، هل ستسحب الرخصة من السائقين ويحرما مستقبلا من ممارسة هذا العمل غير المشروع حماية لأرواح المواطنين واحتراما للقانون الذي يجب أن يسري على الجميع؟، أم أن الإجراء المتخذ في حقهما يكتسي طابعا مؤقتا، وأن كل شيء سيتم تسويته حبيا وكفى الله المومنين القتال؟..
إن هذا الحادث الذي طفا إلى السطح، ليس إلا النقطة التي أفاضت الكأس، لأن هذا النوع من الممارسات ليس جديدا، فهو أمر معتاد ومشروع في عالم هذا القطاع المنفلت الذي لا يتحكم أحد في زمامه، بل هو ينشط بكل حرية وبتزكية من المسؤولين، لأن معظم وسائل النقل المستعملة تكون في ملك أشخاص نافذين من رجال السلطة، ولذلك يتم غض الطرف عن هذه الظاهرة، بل يتم الحرص على حمايتها ورعايتها منذ عدة عقود ما دامت فيها مصلحة للطرفين، تتغذى عليها جهات تعمل خلف الستار. ولذلك لا يوجد مبرر حقيقي في نظرها لوضع حد لهذه المهنة التي يقتات عليها عدد من الأشخاص والعائلات، كما أنها تخفف من أزمة النقل العمومي التي يعاني منها عموم ساكنة ولاية طنجة، فيكون الرابح الأكبر في النهاية هي تلك الجهات والشبكات التي تمتلك العربات والوسائل المستعملة لهذه الغاية والتي تتوصل بحصتها من الغنيمة كل يوم.. ويشمل ذلك قسما كبيرا من سيارات النقل السري والمزدوج وسيارات نقل العمال ..
لم يعد هناك مسوغ للحديث عن النقل السري، لأن مثل هذه العربات تشتغل في واضحة النهار وتتحرك وسط المدينة بكل حرية، وهي موزعة على ثلاثة مستويات: النقل المزدوج، ونقل العمال، وهما يعملان بترخيص قانوني في نظر السلطات، ثم النقل السري الذي يشتغل بترخيص تحت الطاولة، لكن القاسم المشترك بين العناصر الثلاثة هو العشوائية والفوضى في طريقة تعاملهم مع قانون السير ومع حقوق المرتفقين، حيث لا يخلو أي صنف من المشاكل التي تلحق الضرر بمصالح المواطنين، كما أنها تتسبب في وقوع حوادث قاتلة باستمرار بسبب الطيش وغياب النضج لدى أغلب السائقين نتيجة غياب الصرامة في تطبيق القانون، ثم تساهل السلطات الإدارية والأمنية مع أنواع الخروقات التي تمارس جهارا كل يوم، فلا يتم التدخل إلا عند وقوع الكارثة ..
وفي سياق مقاربتنا لهذا الملف الشائك والمعقد، يمكن تسليط الضوء على الجانب الإيجابي والجانب السلبي في تجربة هذا القطاع المركب الذي أصبح جزءا من الواقع الاجتماعي داخل كل المدن..
الجانب الإيجابي: إن هذا القطاع بمكوناته الثلاثة قد فرضته الظروف الاجتماعية وحاجة الناس إلى وسائل النقل العمومي بسبب الأزمة الدائمة لقطاع النقل الحضري الذي عجزت المجالس والإدارة الترابية عن معالجتها طيلة المراحل السابقة، وما زال الوضع مرشحا للتفاقم بسبب فشل شركات التدبير المفوض في توفير التغطية الكافية لتراب الولاية، ثم احترام دفاتر الشروط فيما يخص تقديم الخدمات اللائقة للمرتفقين، مما كان سببا في تعميق الهوة بين المواطنين وقطاع النقل الحضري الذي لا يغطي إلا نسبة محدودة من الطلبات، وهو ما يشجع عموم المرتفقين على البحث عن بديل لحل مشكل التنقل وقطع المسافات الطوال التي لا يغطيها النقل الحضري بالشكل اللائق، فلا يجدون ضالتهم إلا في سيارات النقل العشوائي بأقسامه الثلاثة، حيث يلجأون إليه مكرهين كحل لمشاكلهم .. فمن هذا الجانب يمكن الجزم بأنه لولا هذا القطاع العريض من سيارات النقل العشوائي لما تمكن الكثير من المواطنين من الوصول إلى دورهم أو مقرات عملهم .. بل رأينا كيف امتد دوره وتغلغل أخطبوطه داخل الأحياء والقرى وبجوار المحطات الطرقية وفي الأسواق من أجل البحث عن موطئ قدم إلى جانب سيارات الأجرة وحافلات النقل الحضري والنقل الطرقي.. فهو يساهم في نقل سكان البوادي وكذلك التلاميذ وسواقة العالم القروي وكذلك البضائع والسلع من الأسواق، بل يقوم بدور نقل الفرق الرياضية وتنظيم الرحلات الجماعية، ومرافقة الجنائز والأعراس ونقل المصطافين إلى الشواطئ والمنتزهات ونقل تلاميذ المدارس.. بل هناك من يقوم بدور مزدوج مثل حافلات نقل العمال.. فمن هذا الجانب لا يمكن نفي الدور الإيجابي لهذا القطاع المركب، هذا فضلا عما يوفره من مناصب الشغل لأنه يعول الآلاف من العائلات..كما أنه يقرب المواطنين من وسائل النقل التي يجعلها متاحة أمامهم في كل الأوقات وإلى كل الاتجاهات.. ثم عدم وجود توقيت محدد لعمله، فهو يتحرك في كل الاتجاهات بحثا عن الزبناء بأي ثمن؛ وفي ذلك تكون المصلحة متبادلة بينه وبين الزبون.. الأمر الذي يعكس غياب الوعي لدى المرتفقين الذين يغامرون بحياتهم ويعرضون أنفسهم للخطر الشامل..
الجانب السلبي: يكمن بالدرجة الأولى في فوضوية هذا القطاع غير المنضبط، حيث يبدو أنه لم تعد هناك أي جهة قادرة على كبح جماحه وإخضاعه للإطار القانوني، مما جعل منه قنبلة موقوتة ومصدر قلق وتوتر داخل المجتمع بسبب الخروقات المتعددة التي ترافقه، ثم السلوكات الطائشة واللاأخلاقية لبعض سائقيه الذين لا يتوفرون على أهلية قيادة هذا النوع من السيارات النفعية، وقد وصل الأمر ببعضهم إلى اقتراف جرائم كبيرة الحجم خلال عملية السير والجولان، مثلما هو مشاهد في هذا الحادث (الشريط)، وما زال الرأي العام يتذكر مقتل رجل شرطة سنة 2015 على يد أحد السائقين الذي تعمد سحله إلى حد الوفاة، وكذلك مشهد صدم سيارات النقل السري لسيارة الأمن وسط شارع رئيسي وتحدي سائقها لعناصر الشرطة (2018).
* تهديد حياة المواطنين بسبب غياب شروط السلامة، وفي مقدمتها عدم التوفر على الترخيص القانوني، وعدم خضوع السيارات للمراقبة، ثم لجوء مستعمليها إلى عملية تكديس الراكبين الذين يتم نقلهم في ظروف محفوفة بالأخطار، فضلا عن استغلالهم أبشع استغلال وإلزامهم بأداء تسعيرة غير مستقره وإلزامهم بقبول الركوب في أسوأ الوضعيات..
* اعتماد السرعة المفرطة لحرق المسافات والهروب عن نقط المراقبة، والتسابق مع الغير من أجل الفوز برؤوس الزبناء دون مراعاة لحجم المركبة وطاقتها الاستيعابية التي يتم تجاوزها بكثير..
* التسابق مع سيارات الأجرة وحافلات النقل الحضري، ثم ممارسة العربدة عند المحطات من أجل التأثير على الراكبين، وكذلك المغامرة بحياة الراكبين خلال عملية تنقله والتوقف بشكل عبثي وسط الطرقات من أجل التقاط الزبناء هنا وهناك.
* استعمال العنف مع المرتفقين وإرغامهم على القبول بوضعيات مهينة تحط من كرامتهم، ثم القبول بالاستغلال البشع، وذلك عن طريق تكديسهم فوق بعضهم البعض مختلطين ذكورا وإناثا ..
* النزاعات التي تحدث من حين لآخر بين ممتهني هذا النقل عند نقط تجمع الركاب قرب محطات الحافلة أو محطات سيارات الأجرة .
* الأثر السلبي لهذا القطاع على باقي المهنيين بقطاع النقل الحضري، وبالدرجة الأولى سيارات الأجرة التي تتضرر كثيرا من هذه العملية .
* تدهور حالة السيارات المستعملة التي تظل غير خاضعة للمراقبة التقنية والأمنية، مع انعدام التأمين القانوني.
* لجوء بعض سائقي نقل العمال، لنفس السلوك والممارسات المتعلقة بخرق القانون والاعتداء على حقوق المرتفقين وتهديد الأمن العام بسبب العدد الهائل لعربات هذا القطاع التي تتحرك يوميا داخل المدار الحضري محدثة حالة من الاضطراب والفوضى التي تتوج غالبا بوقوع حوادث السير القاتلة.. هذا فضلا عن قيام البعض من هؤلاء بمزاولة النقل السري بنفس الشروط التي يمارس فيها الآخرون ..
* رغم توفر مزاولي مهنة النقل المزدوج على الرخص، فإنهم يظلون يشتغلون بنفس العقلية القائمة على سوء توظيف هذه العربات النفعية، حيث لا يوجد شيء يقيدهم بحسن السلوك والتزام القانون في التعامل مع المرتفقين (على مستوى الثمن وعدد الركاب، والسرعة، ونسبة الملء، والخط المستعمل..).
* حمل العربات للزجاج المعتم الحاجب للرؤية، فضلا عن تغير السائقين الذين تجهل هويتهم، مما يشكل خطرا على السلامة الأمنية للمواطنين، سواء بالنسبة للراكبين أو كل مستعملي الطرق من راجلين وأصحاب العربات..
الآفاق والحلول الممكنة:
إلى حد الساعة لا يبدو في الأفق وجود حل ناجع لهذا المشكل المركب، وهو ما يعني أن المدينة التي تنمو عشوائيا ستظل رهينة لهذا الواقع المؤلم، فالعشوائية على مستوى سياسة المدينة التي يدخل ضمنها التعمير لا يمكن أن تفرز إلا هذا النوع من الظواهر التي يصعب التغلب عليها في غياب البديل.. فحينما نتحدث عن الحضور القوي للنقل السري، نقف في المقابل على ضعف قطاع النقل الحضري، سواء تعلق الأمر بالحافلات أو بسيارات الأجرة، فكلاهما غير قادر على استيعاب الطلب المتزايد على وسائل النقل داخل المدينة ونواحيها، ويبرز ذلك بجلاء داخل محطات الوقوف، حيث يظل المواطنون عرضة للإهمال بسبب عدم وجود حافلة أو سيارة أجرة تستوعبهم .. وهنا يكون اللجوء إلى وسائل النقل السري ضروريا، لأنها تصبح المنقذ الوحيد لهم في مثل هذه الظروف، وما أكثرها، خاصة في ظروف الذروة وخلال الفترة الليلية. والأخطر من ذلك هو أن هذا القطاع قد اتخذ أبعادا أخرى بانضمام أصحاب دراجات الدفع الثلاثي والشاحنات التي تحولت بدورها إلى وسائل لنقل الركاب في المدن والبوادي..
فحين الحديث عن تصور لمعالجة ظاهرة النقل السري، يجب أن ينصب الاهتمام بالدرجة الأولى على التفكير في إيجاد حل لأزمة النقل الحضري التي عجزت الجماعة الحضرية عن معالجتها رغم الوعود المتكررة والتلويح ببعض السيناريوهات التي ما زالت بعيدة المنال.. فحينما يتم حل مشكل قطاع النقل الحضري الخاص بالحافلات من خلال توفير قطاع مهيكل ومؤهل يتوافق مع التطور الذي تعرفه المدينة وفق الشروط التي تشجع الناس على استعمال أدواته، وكذلك تنظيم قطاع سيارات الأجرة وضبط سلوكات المهنيين بشكل يسمح بتحسن الخدمات وضمان احترام حقوق المستهلكين .. ثم التفكير أيضا في طرح بدائل متقدمة وعلى رأسها الميترو والترام .. فآنذاك يحق للمسؤولين الحديث عن عهد نهاية النقل السري أو المفضوح .. فما من شك آنذاك أنه سيتقلص عدد تلك العربات التي تجوب شوارع المدينة، والتي تعد بالآلاف لأن أصحابها لن يجدوا من يركب معهم أو يقبل بخدمتهم الرديئة والمحفوفة بالخطر ..
وفي انتظار الوصول إلى هذه المحطة، يحق لنا التساؤل عن الحل المؤقت. فهل هو الاستسلام التام والاستمرار في التسامح مع هذه الظاهرة والتواطؤ مع أصحب هذا النوع من النقل؟ أم أنه لا بد من الحزم في تطبيق القانون من أجل ردع المخالفات وتجفيف الساحة من الممارسين غير الشرعيين، وذلك من خلال تأطيرهم ومنحهم الرخص لمزاولة عملهم وفق الشروط والمعايير القانونية، مع إخضاعهم لمسطرة حماية حقوق المرتفقين من جميع النواحي ..
وبالنظر لتعدد هذه الممارسات المنحرفة، فإنه يطلب التريث في منح الرخص إلا لمن يستحقها من السائقين الذين يجب أن يخضعوا للتحليل النفسي وللتكوين والأهلية وأن تمنح لهم رخصة الثقة الحقيقية التي تؤهلهم للعمل دون مشاكل.. فلماذا يحرم هؤلاء من حق الحصول على تراخيص مهنية تسمح لهم بالعمل الشريف مع الخضوع لسلطة القانون والقيام بالواجب الوطني، ولماذا لا يتم تشجيعهم على الاستثمار بشكل قانوني ومسؤول في هذا المجال دون عراقيل ومثبطات..؟
ووعيا منها بالظاهرة، مدت كتابة الدولة لدى وزير التجهيز والنقل واللوجستيك المكلف بالنقل، يدها إلى المشتغلين في القطاع بشكل سري، لمساعدتهم على الاشتغال بشكل قانوني، لاسيما في الوسط القروي، حيث كانت قد دعت العاملين بالقطاع إلى: “تقديم ملفاتهم الخاصة بالنقل المزدوج إلى الوزارة”.
وأشار كاتب الدولة المكلف بالنقل محمد نجيب بوليف، خلال جلسة شفهية بالبرلمان، بتاريخ 11 دجنبر 2017، إلى أن: “الحكومة تقدم وصولات مؤقتة للاشتغال بشكل قانوني ولكن يجب أن تتم تسوية الوضعيات القانونية بعد منح الوصل المؤقت”.
وكان محمد نجيب بوليف قد أعلن بالبرلمان، على أن الحكومة: “مستعدة لتقديم التراخيص لجميع الذين يتقدمون بطلبات على المستوى الإقليمي وكذلك الوطني للخروج من النوار إلى القانون”، منبها إلى أن: “البعض بمجرد ما تثقله مصاريف إضافية حتى يفضل الاشتغال خارج القانون”.
غير أن الكاتب العام المكلف بالنقل، لم يتحدث حينها عن النقل السري بالوسط الحضري، بالرغم من تحذيرات نواب الأمة من الموضوع.
وفي هذا الصدد، تحدثت بيان اليوم مع مجموعة من السائقين وأصحاب العربات خصوصا في العالم القروي، عن سبب رفضهم طلب رخصة النقل المزدوج، فكان جواب جلهم أن: “دفتر التحملات المتعلق باستغلال خدمات النقل المزدوج”، جاء بشروط قاسية وتعجيزية يصعب عليهم توفيرها وتنفيذها على أرض الواقع”.*.
ولقد سبق للرابطة إثارة هذا الموضوع أكثر من مرة محذرة من خطر التساهل مع هذه الظاهرة والتخلي نهائيا عن حماية أرواح المواطنين، وذلك من خلال تقييد مهنيي القطاع بضوابط صارمة على مستوى عربات السير المستعملة، وفي مقدمتها وجوب التقيد باستعمال جهاز محدد السرعة، ثم حمل جهاز تطبيق (جي. بي. إس) لضبط عدد الركاب، وكذلك المسارات المستعملة.
وخلاصة القول في هذا الباب، هي إمكانية الجزم بوجود جهات ضاغطة تحرص على استمرار القطاع السري العشوائي على مستوى هذا القطاع لأنه بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا، ولذلك يتم عمدا إهمال النقل الحضري وعرقلة عملية تطويره لإتاحة المجال أمام هذا الأخطبوط لينتشر أكثر وليفرض شروطه التي لم تعد تشكل استثناء..عن “المكتب المركزي لرابطة حماية المستهلكين”