ساحة تحت الأقواس.. والمساء يقترب بهدوء. كان دافيد هربرت، الذي يحيط عنقه بفراشة ضخمة يحرك جرس البينغو. يعتبر البينغو لعبة قمار ذات أصول أمريكية، ودافيد هربرت هو نجل اللورد هربرت الذي يعتبر بدوره الابن الأكبر للكونت الخامس عشر لبيمبروك والكونت الثاني عشر لمونتغومري. ولأنه ابن ثان، فإنه لم يرث أي لقب، وقد أطلقت عليه طنجة بحنو ومحبة لقب “الملكة غير المتوجة”.
كان هذا الرجل صديقا لديانا كوبر والأخوات ميتفورد. كان يزرع حديقته ويهتم بها بحذق بالغ، وكان يملك ثلاث قطط، وقد تفضل بتقديم خدماته، ودائما ببعض المرح والظرف، في أمسية العمل الخيري هاته.
داخل قاعات مخصصة للدروس، جاءت طنجة بكاملها لكي تحضر قرعة البينغو، وكان كل واحد يلعب أرقامه وتدور العجلة. كانت الصرخات تتعالى باللغات الثلاث، وتعلو الضحكات وتبادل التهاني.
كان المال المترتب عن هذا الحفل منذورا بكامله للجمعية الراعية للحيوانات. كان رجلا مقطب الوجه يسهر على الصندوق المخصص لذلك، وكان ضحية عبث ولهو الجالية البريطانية في طنجة.
تناولنا حلوى بالشوكولاتة أعدتها الممرضات اللاتي يسهرن على تمريض هذه الحيوانات. كان الأمر متعلقا بحلوى ذات شكل رخامي ورخو، وقد كتب الحلواني على إبداعه برنامج السهرة بحروف من الكاكاو “عاشت الحيوانات”، وغرس في القشطة منحوتة شكلها بيده بين صفائح ذائبة من الشوكولاتة بالحليب تمثل كلبا من صنف الكانيش يرفع قائمته مبتسما. وفي الحانة، علمت بأن طنجة تتباهى بأنها تملك مقبرة للكلاب. وكان أن قررت زيارتها في ليلة الغد.
كانت مقبرة الكلاب تقع بعيدا عن المدينة في مكان مليح وفاتن على بعد مئات من الأمتار من مضمار “ليتريي” للخيول على حافة واد هادئ كان أهل طنجة يطلقون عليه وادي اليهود. لوحة تحت الأشجار كتب عليها بالإنجليزية المستوصف الشعبي للحيوانات المريضة ونزل للراحة. حظيت القطط بشاهدة مغروسة في الأرض، أما تلك المخصصة للكلاب فمغروسة أفقيا.
في الجانب الآخر من الوادي، كان جمع من الأطفال يلعبون الكرة بين شجر الصبار فوق ميدان منحدر. كان الفريق الأول في أعلى التلة فيما كان الفريق الثاني في الأسفل. لم تكن ثمة مساواة وعدل، لأن الفريق الأول كان مهيمنا بشكل لافت.
هي ذي بشكل مجمل بعض ما كتب على شواهد قبور الحيوانات باللغتين الإسبانية والإنجليزية: ملاكي كيب، عزيزتي تينا، بيبو حبيبي المخلص والحنون الذي لن أنساه ما حييت، عزيزنا توتون، إلى صغيرتنا لايكا، ليندي، ويسكي، كاميليا، جيم رفيقي المخلص، واندا، طوطور، كلبنا العزيز، مينغ صديقنا الحبيب، كوكان آل برانس المعروف بكيكي. إلى الحبيب دومينو… إلخ
وهذه أسماء بعض القطط: باندي، مينوش، نيلسون، أوليس، لادرونا، مونطي، بيبيت، نيكيتا. كانت هناك أيضا شاهدة باللغة العربية لم أتمكن من فك طلاسمها.
لم تكن على قبور الجيوانات أكاليل ورود، وإنما شواهد من الحجر فوق عشب جاف وبقع من ظلال الأشجار.
أحسستني أكثر قوة بتأثير هذه الزيارة فاندفعت في زيارة استكشافية لكل مقابر طنجة. كنت راغبا في زيارة طنجة الأخرى، تلك المتعلقة بالمختفين والغائبين. بدأت بالمقبرة الكاثوليكية الأقرب. استقبلني حارس يرتدي بذلة زرقاء وربطة عنق وكنزة بحرية ونظارتين سوداوتين. كانت يده اليسرى تفتقد ثلاثة أصابع. أكد لي بأنه مسلم. كان ارتفاع القبور يعانق المظهر غير المنبسط لهضبة كبيرة والتي كانت تتسم بوفرة الحفر والأخاديد. المقبرة شبيهة بالمدينة؛ فهي نسخة خرساء وتجسيم مصغر لانحدار وتدهور. قبور فخمة بشرفات وعواميد وزخارف وزليج ورخام، وعلى حين غرة تباغت بقبور مبقورة وآثار عامرة بالشقوق وشبابيك صدئة ومغمورة بالعوسج وصلبان مكسورة. لا وجود هنا لأحياء. يرقد الطنجاويون في هذا المكان دون تمييز بين الأعراق، وإن كانوا يشتركون في كاثوليكيتهم الإيرانيون والبرتغاليون والفرنسيون والإسبان والأمريكيون والإنجليز، وكان ثمة أيضا مواطن جزائري. وقد أكد الحارس في خصوص هذا البائس التعس، ما رواه لي أحد الأصدقاء: بالنسبة لنا نحن المغاربة، فإن الجزائري هو الأكثر نصرانية من بين كل المسلمين.
تعني مقبرة في اللغة العربية المكان المعار. لقد خصص الإسلام في بلاد المغرب دائما مترين لقبر النصراني. وتبدو الأمور على أية حال أكثر تعقيدا مما نرجوه ونأمله. معارة أي مقبرة أو المكان المعار يعني أيضا مكان العار.
ترجمة: عبد المنعم الشنتوف