قبل بضعة أيام اشتكى أهل مكناس قائلين إنهم فوجئوا بإنزال عدد كبير من المرضى النفسانيين والمختلين في مدينتهم دون سابق إشعار، وأن العدد الكبير لهؤلاء المرضى النفسانيين خلق ارتباكا في المدينة لأنها لم تستقبل من قبل كل هذا العدد من “إخواننا المجانين”.
ما حدث في مكناس قبل أيام ظل يحدث في المغرب منذ سنوات وعقود طويلة. فالمغرب بلد يخجل من مجانينه ومن فقرائه ومن موبقاته، رغم أن هؤلاء المجانين لم يولدوا مجانين، بل “حمّقهم” الواقع المر، وعندما حدث لهم ما حدث صارت بلادهم لا تعرف ما تفعل بهم سوى تصديرهم من مدينة لأخرى ومن منطقة لمنطقة كأنهم وباء “إيبولا” متحرك.
المجانين الذين تم إفراغهم في مكناس جاء أغلبهم من إفران، ويقال إن سبب ذلك هو أن رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، كان سيجتمع في مدينة الثلج مع قيادات من حزبه في اجتماع يسمى “الخلوة، وهي ليست خلوة شرعية بقدر ما هي خلوة سياسية، لدلك كان لا بد من أن يغرب عن الخلوة مجانين المدينة، مع أنه لا أحد يعرف من هو المجنون فعلا، هل هو الذي فقد عقله لأنه تحمل أكثر من طاقته، أم هو ذلك المسؤول الذي يرفع سعر البنزين أكثر من مرة في شهر واحد.
عموما فإن ما عانت منه مكناس مؤخرا عانت منه كل المدن والمناطق المغربية. ففي أيام الحسن الثاني كان مجانين المغرب يتحركون وفق أجندة التحركات الملكية، فكلما كان الملك متوجها نحو مدينة أو منطقة ما، يتم جمعهم وترحيلهم نحو مدن أخرى، وهكذا صار مجانين المملكة مثل “ابن بطوطة”، لا يتوقفون عن المسير والترحال.
في تلك الأيام، التي لا نقول إنها بائدة لأنها لا تزال سائدة، كان سكان مدينة ما يفاجأون في ساعات الفجر الأولى بحشود من المجانين وهم يزحفون نحو المدينة قبل انبلاج الفجر، بحيث كانت الحافلات والشاحنات تفرغهم على أطراف المدن كما تُفرغ شحنات رمل أو حجارة، ثم يبدؤون في الزحف نحو وسط المدينة كما لو أنهم شخصيات سينمائية خرجت للتو من أفلام “الزومبي”.
اليوم لم تعد رحلات المجانين المغاربة بنفس الكثافة والقوة التي كانت عليها في الماضي، والسبب بسيط وهو أنه لا أحد يستطيع التفريق بين المجنون والعاقل في هذه البلاد، لأنه قد يتم ترحيل مئات المجانين من مدينة لأخرى، وفي النهاية نكتشف أن المجانين الحقيقيين هم الذين قاموا بعملية الترحيل، ففي كثير من الأحيان يكون ذلك المجنون المتسخ الحافي القدمين أكثر تعقلا من ذلك الذي يرتدي بذلة أنيقة بربطة عنق ويركب سيارة فارهة ويتظاهر بأنه أعقل العقلاء.
في المغرب يوجد اليوم أزيد من 8 ملايين مغربي مصابون بالاكتئاب، يعني ربع المغاربة مرضى نفسانيين بصفة رسمية، وهؤلاء لا يتيهون في الشوارع ويبحثون في براميل القمامة أو ينامون في الشارع وعلى أبواب العمارات، بل هم في كثير من الأحيان يتبوؤون مناصب مسؤولية كبرى، وأحيانا لهم شهرة واسعة أو يقودون أحزابا وهيآت سياسية، ولو أننا حشرناهم مع المجانين الرسميين ورحلناهم من مدينة إلى أخرى فقد لا نجد من يحكمنا.
في المغرب أيضا يوجد قرابة ربع مليون من الأشخاص المصابين بالفصام، ومرض الفصام، لمن لا يعرفه، مرض نفسي خطير يجعل شخصية الإنسان مفتتة وتائهة، وهو ما يؤثر بشكل كبير على حياة المصاب بهذا المرض، وأيضا على حياة أسرته والمقربين منه. لكن رغم كل هذا العدد من “المنفصمين” إلا أنه لا يتم ترحيلهم من منطقة لأخرى خلال الزيارات الرسمية لكبار المسؤولين لسبب بسيط، وهو أنه لا أحد يعرفهم. ويبدو أننا لو قمنا بترحيل هؤلاء فستشغر الكثير من مناصب المسؤولية في هذه البلاد.
المغاربة عادة ما يتخيلون المجنون بأنه ذلك الشخص الوسخ الرث الثياب الذي يدخن أعقاب السجائر التي يلقاها على الطرقات وينام في أي مكان ويبحث عن رزقه في القمامة، لكن لا أحد من المغاربة يتخيل المجنون على أنه ذلك المسؤول الكبير الأنيق جدا الذي يتوفر على سيارات كثيرة له ولزوجته وأولاده، ورصيد كبير في أبناك داخلية وخارجية، والتي يملؤها بما يسرقه من الميزانيات والاعتمادات المخصصة للمرافق الأساسية لشعب المغرب. الناس حمقى بالفعل لأنهم لا يعرفون من هم مجانين المغرب الحقيقيين، هل هم الذين صبروا طويلا ولم يتحملوا فانفجرت عقولهم، أم هم أولئك اللصوص والأوغاد الذين سرقوا طويلا فلم يحاسبهم أحد حتى تفجرت عقول هذا الشعب المسكين من فرط الصبر والتحمل.
الجنون في المغرب مختلف تماما عما هو عليه في باقي مناطق العالم.